قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. آية الهنداوي تكتب: الشباب العربي والحرب المفقودة.. الصحة النفسية على صفيح ساخن

د. آية الهنداوي - مدرس الدراسات اليهودية - جامعة المنصورة.
د. آية الهنداوي - مدرس الدراسات اليهودية - جامعة المنصورة.

وسط الدمار والفوضى التي تتركها الحروب والتهجير القسري يعيش الشباب العربي واقعًا مريرًا يتجاوز الخسائر المادية ليصل إلى أعماق النفس. لم تعد الحرب مجرد صواريخ وألغام، بل أصبحت حربًا على العقل والروح حيث تتضاعف الضغوط النفسية والتوترات اليومية ويتعرض الشباب لموجات من القلق والإكتئاب والصدمات النفسية التي تؤثر على قدرتهم على التعلم والعمل وحتى بناء علاقات إجتماعية صحية.

التقارير الدولية تؤكد أن نسب اضطرابات الصحة النفسية بين الشباب في مناطق النزاع تفوق بكثير المتوسط العالمي مما يجعلهم فئة شديدة الهشاشة أمام أي أزمة جديدة. ومع ذلك، فإن الحديث عن الصحة النفسية في المجتمعات العربية غالبًا ما يظل مغيبًا أو مهملًا، بينما تتحول صرخات الشباب إلى أصوات مكتومة خلف الجدران المهدمة والمدن المشردة.

المبادرات المحلية والشبابية تعد بصيص أمل في هذا الظلام النفسي. برامج الدعم النفسي، المراكز المجتمعية، والمبادرات التعليمية التفاعلية تقدم للشباب فرصة لإستعادة بعض توازنهم النفسي وإعادة بناء مهاراتهم الإجتماعية والمهنية. لكن هذه الجهود رغم أهميتها تحتاج إلى دعم مؤسساتي وسياسات واضحة من الدول لتعزيز فعالية العمل النفسي والإجتماعي.

إن تجاهل هذا البعد النفسي للشباب لا يضر الفرد فقط، بل يشكل تهديدًا مستقبليًا للمجتمع بأسره. شباب اليوم هم القوة التي ستقود إعادة البناء غدًا، فإذا تركناهم غارقين في صراعاتهم الداخلية دون دعم فإن آثار الحرب لن تنتهي بتوقف القتال، بل ستستمر أجيالًا في صورة مشاكل إجتماعية وصحية ونفسية معقدة.

الأمر يحتاج إلى وعي جماعي، وإدراك أن إعادة الإستقرار للشباب لا تبدأ بالسياسة وحدها، بل بالاستماع لهم ومعالجة صدماتهم وتمكينهم من المشاركة الفعالة في بناء مستقبل منطقتهم. 
فالسلام الحقيقي يبدأ من العقل والقلب قبل أن يبدأ من أي إتفاق سياسي والشباب هم حجر الزاوية في هذا البناء.

الحرب لا تهدم فقط المباني، بل تهدم الأحلام والهوية. وكثير من الشباب يشعرون بفقدان السيطرة على مستقبلهم ويعيشون في حالة مستمرة من الإحباط واليأس مما يدفع بعضهم إلى الإنغماس في سلوكيات محفوفة بالمخاطر أو الإنسحاب التام من المجتمع ليصبحوا ضحايا صراعات لم يختاروها ويواجهون فقدان البوصلة الأخلاقية والإجتماعية. 
في هذا الواقع تلعب الأسرة والمجتمع المحلي دورًا أساسيًا كخط الدفاع الأول ضد الصدمات النفسية حيث يساهم الدعم الأسري المتماسك، وبرامج التوجيه المجتمعي والمجموعات الشبابية التفاعلية في إعادة بناء الثقة بالنفس وتخفيف آثار الصدمات، لكن في مناطق النزاع حيث تتفكك البنية الإجتماعية ويبقى الشباب غالبًا دون حماية أو إرشاد مما يضاعف الحاجة لتدخلات عاجلة ومستدامة. ورغم كل التحديات يظهر الشباب العربي قدرة ملحوظة على الإبتكار والتكيف من خلال مشاريع صغيرة لإعادة الإعمار ومنصات تعليمية رقمية ومبادرات نفسية مجتمعية تثبت أن الإستثمار في الشباب ليس رفاهية، بل ضرورة لبناء مجتمعات قادرة على التعافي والمقاومة وتحويل هذه المبادرات إلى برامج مؤسسية يمكن أن يكون الفارق بين مجتمع محطم وآخر قادر على الصمود. ولا يمكن أن تتحقق أي إصلاحات حقيقية دون تدخل الدولة بجدية ووضع سياسات واضحة لدعم الصحة النفسية للشباب في مناطق النزاع من خلال توفير الموارد وتدريب المختصين ووضع برامج استباقية، فالمستقبل لن يُبنى إلا إذا أصبح الشباب محور أي إستراتيجية للتنمية والسلام.

وأضيف من خلال هذا السياق ، أنه لابد من التعاطف التام مع أجيال الحروب، فالشباب الذين نشأوا في مناطق النزاع لم يعرفوا طفولة طبيعية أو استقرارًا نفسيًا وإجتماعيًا. 
فهم بحاجة إلى فهم عميق لدواخلهم والتقدير لمعاناتهم اليومية، وليس مجرد تقديم حلول سطحية. التعاطف الحقيقي يعني توفير الدعم النفسي والفرص التعليمية والمساحات الآمنة للتعبير عن الصدمات والمخاوف ليتمكنوا من استعادة شعورهم بالكرامة والأمل وبناء مستقبلهم الشخصي والإجتماعي بعيدًا عن دائرة الخوف واليأس.

فالشباب العربي هم المستقبل وصوتهم وصمودهم يمثلان الأمل الحقيقي في عالم ملأته الحروب والفوضى. ولا يمكن إعادة بناء المجتمعات أو كسر دائرة العنف دون الإستثمار الفعلي في قدراتهم النفسية والإجتماعية والتعليمية. ومسؤوليتنا الجماعية أن نمنحهم الدعم و الإستماع والفرص ليصبحوا قادة التغيير فكل جيل يتجاوز آلام الحروب هو خطوة نحو السلام والإستقرار والتنمية وكل لحظة اهتمام بهم اليوم تزرع أسسًا لمجتمع أكثر قوة 
وتماسكًا غدًا.

مدرس بكلية الآداب ـ جامعة المنصورة.