كيف تحول القتل إلى جنحة؟

جولة سريعة في أي سوق شعبي بأحياء أو قرى مصر لن تفاجأ بهذا الكم الهائل من الأطعمة الفاسدة القاتلة يحاصرك من كل مكان، سلع مجهولة المصدر ومعبأة تحت اسم شركات غير موجودة، وأطعمة مكشوفة أقل سعرا من المغلفة، وبقايا بطاطس شيبس، وجاتوه وحلويات-القطعة بجنيه، ومش وجبن وفطير فاحت رائحته من شدة حرارة الشمس تؤكد انتهاء صلاحيته.
مشاهد اعتدنا عليها في الأسواق الشعبية التي ضمت كل السلع الغذائية الرخيصة لتباع لمواطن يقتات بالكاد من عرق جبينه بضع جنيهات لا يعرف كيف تسد احتياجات أسرته، فلا يفكر كثيرا ويشترى الرخيص. فهنا لا رقابة ولا توعية، فكيف تخرج تلك السلع الفاسدة للأسواق؟ وأين يتم تسويقها؟ وكل يوم يدخل قائمة السرطان والكبد الوبائي والفشل الكلوي مرضى جدد بسبب التلوث الذي طال الغذاء والماء.
مافيا الأغذية الفاسدة بدأت من فرز القمامة واستخراج بقايا الأطعمة وإعادة تدويرها وتغليفها وبيعها بالأسواق، ولم تترك بقايا اللحوم بمجازر الدواجن إلا وباعتها للناس في شكل مدخلات لتصنيع لانشون الفراخ والسوسيس والحواوشي والهوت دوج والأغذية المجمدة.
مؤخرا تم الكشف عن مجزر في بلبيس بالشرقية تقوده مافيا تصنيع اللحوم والفراخ منتهية الصلاحية والغير صالحة للإستخدام الآدمي، يتبعون طرق وأساليب مختلفة لتخزين الدواجن واللحوم الفاسدة، يقومون بفرم وإعادة تصنيع هذه السموم ويقلدون العلامات التجارية لكبرى شركات الأغذية لبث الثقة والطمأنينة فى نفوس المصريين.
في ظل رقابة شبه منعدمة، وقوات مباحث التموين بمحافظات الجمهورية لا تقارن بالحجم الكبير لمصانع بئر السلم ومافيا الأغذية الفاسدة التي انتشرت في كل مكان، هؤلاء يتاجرون بصحة الشعب لهثاً وراء الثراء السريع، في ظل قانون ضعيف يتعامل مع قضايا التموين والغذاء الفاسد باعتبارها جنحة. فكيف تتحول جريمة قتل الشعب واستهداف الأطفال بالسرطان إلى جنحة؟
مافيا الأغذية الفاسدة بنفوذها المتنامي ومحاميها الماهرين يستفيدون من الثغرات القانونية للنفاد من العقوبات. فالحقيقة أن تجارة وتصنيع الأغذية الفاسدة مثلها مثل جنحة القتل الخطأ تستند إلى حجة واهية وهي - الإهمال -.
مثل أشياء كثيرة في مصر تحتاج إلى ثورة للتغيير فإن الرقابة على الغذاء والأسواق تحتاج إلى تعديلات قانونية على المشرع المصري إعادة النظر فيها، فمثل هذه الجرائم لا تتناسب مع طبيعة الجرم، فهي أشد ضراوة من جرائم القتل مع سبق الإصرار وجرائم المخدرات، فجرائم الغذاء تقتل شعب بأكمله، تقتل مستقبل أطفاله.
الحالة العامة للرقابة على الأسواق تدعو إلى الإحباط، فالأمر يحتاج إلى جهود السلطة التشريعية والتنفيذية لصون صحة المصريين وسن تشريعات رادعة واتخاذ إجراءات حاسمة لمكافحة هذا الفساد، بل وتوظيف التقنيات الحديثة لكشف التلاعب في الأغذية.
العجيب أن لدينا مسئولون بالرقابة ومفتشون على الأسواق ومواطنون لا يتعاملون مع الأغذية سوى بحاسة الشم، فهم يؤمنون بالبساطة في مهمتهم لحماية صحة البسطاء ويكتفون بحاسة الشم والتذوق أواللمس ولا يرون داعيا لتحليل العينات وإثبات فسادها.
الأكثر إحباطا عندما يخرج المسئول ويلقي باللوم على المستهلك، ويطالب الإعلام بالتوعية، فأين حملات الحكومة لتوعية المواطن للتمييز بين الغذاء الفاسد والمغشوش، كيف نلوم المواطن وهو لا يدرك طرق التلاعب والغش وتزوير العلامات التجارية.
مطلوب دور أكثر فعالية من الحكومة وجمعيات حماية المستهلك فدورهم لا يزال نمطيا متواضعا في مواجهة كارثة صحية تقتل المجتمع. أعتقد أن لجنة الإصلاح التشريعي التي بدأت عملها منذ شهور لا يجب أن تترك جرائم الغذاء دون تغليظ، فقتل أطفالنا وصحتنا لا يجب أن نظل نتعامل معه باعتباره مجرد جنحة.