مقال.. سُنَّة الاختلاف بين الوعى وسوء الفهم

من الحقائق القرآنية التى تلتقى مع العلم أن التعدد والتنوع سمة من سمات هذا الكون.. إنها سنة الله فى خلقه.. الكون بأسره تسرى فى جَنَبَاتِهِ سمات الاختلاف والتنوع:
-سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ..
-ملائكة وإنس وجن وحيوان ونبات.
-برٌ وبحر ونـهر، وجبل، وسهل.
-أجناس شتى من كل شىء.
- وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الذريات/49.
وجرت سنة الله فى خلقه أن يكون الناس مختلفين، قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" هود/118.
لا يزالون مختلفين: ألوانهم مختلفة، ألسنتهم مختلفة، مشاربهم مختلفة: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ الروم/22.
إن اللسان هو اللغة، وهو هنا رمز للثقافة، ألسنة مختلفة تعنى ثقافات مختلفة لأمم شتى. لكن هذا الاختلاف ليس دافعًا إلى التدابر والتقاطع والتخاصم، بل على العكس من ذلك هو دافع للحوار واللقاء والتكامل: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ" الحجرات/13.
(لِتَعَارَفُوا): ما أجمل هذه الكلمة! وما أعمق معانيها وظلالها!! فالتعارف: معرفة، أى علم. والتعارف: معروف، أى خير. والتعارف: عِرْفانٌ بنعمة الله. والتعارف: اعترافٌ بفضله ورحمته سبحانه. والتعارف: أعراف، أى تقاليد وأخلاق وقيم تعارف الناس واتفقوا عليها، وهى جزء من أحكام وشرائع ديننا الحنيف، فهو أساس الترابط واللغة المشتركة، وهو الميراث الثقافى العظيم لهذه الأمة.
أفلا يكون هذا العالم أفضل وأجمل وأطهر لو أننا تعارفنا؟! لو أننا اعترفنا بالاختلاف، وعرفنا سنة الله فى خلقه فلم ننكر على أحدٍ ولم نَدَّعِ امتلاك المعرفة وحيازة الحقيقة من دون الآخرين؟!.
أفلا يكون هذا العالم أفضل وأجمل لو أننا تعارفنا وتواصلنا بالخير بالخير والبِرِّ والعطاء! أفلا يكون هذا العالم أفضل وأجمل لو أننا اعترفنا بنعمة خالقنا وسعة فضله ورحمته سبحانه وتعالى .. فلم تشغلنا تفاهات الحياة الدنيا عن الهدف الأعظم والخير الأكمل ألا وهو معرفة الله ؟!
إننا بحاجة إلى الوعى بسنة الاختلاف؛ كى نجنى ثمار الأفكار المتعددة والعقول المتآزرة، وليس أقلها الوصول إلى الحق والصواب، فلا أحد بعد الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم - يحتكر الحقيقة المطلقة، والحقيقة تحتاج إلى بحث متعمق وأرواح مخلصة تفتش عنها فى كل شىء.. وفقدان هذا الوعى يجعلنا نسخًا متشابهة خالية من الروح، قوالب متماثلة تعيد نسخ ذاتها فى صور ممسوخة، وكلما تقادم الزمان عليها صارت باهتةً غائمةً لا هوية لها ولا معنى.
وتاريخ الإسلام يمدُّنا بالعديد من المواقف التى تدل على استيعاب السلف لمفهوم الاختلاف، ولنا فى رسول الله أسوة حسنة، حين استشار أصحابه رضوان الله عليهم فى معركة بدر: أين ينزل المسلمون؟ ثم نزل على رأى خباب بن الأرت فى النزول قريبًا من ماء بدر، كما نزل على رأى سلمان الفارسى فى غزوة الأحزاب، حين أشار بحفر خندق حول المدينة.
وحين استشار النبى أصحابه فى شأن أسرى بدر، وأخذ برأى أبى بكر الصديق فى فداء الأسرى، وكان رأى الفاروق عمر أن يقتلوا، ونزلت آيات القرآن مؤيدة لرأى الفاروق.
هكذا يرشد النبى الكريم كل قائد فى كل موقع أن لا يحرم نفسه وبلاده ذكاء من حوله، يؤكد ذلك قول الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ الشورى/38.
ولقد عَلَّم القرآن المسلمين أن يجتهدوا وأن يستنبطوا وأن يسترشدوا بعلمائهم العاملين، يقول الله سبحانه فى محكم آياته: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ النساء/83،
فهذه دعوة صريحة إلى الاستنباط والاجتهاد، وللمجتهد المصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد؛ لقول النبى: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
أما أغلب المعاصرين فلم يدركوا درس الاختلاف ولا أنه ضرورة حياتية وسنة إلهية، فتراهم فى عداوة وصراعٍ، لا بسبب الاختلاف المثمر والحوار الخصب، بل على العكس من ذلك كان افتقاد الحوار هو الدافع للعداوة والخصام والصراع، حتى أصبح العالم كله فى واد ونحن فى وادٍ آخر: تجمعات اقتصادية وكيانات سياسية ضخمة، أمم شتى تآلفت وتكاملت وتوحدت، بينما نحن العرب الذين تربينا على أسس من الإسلام الداعى إلى الحوار والجدال بالتى هى أحسن، لا نزال فى تقاطع وتدابر وتشرذم، كيانات ممزقة تعصف بها رياح القوة فى عالم يقوم على القوة فى كل شىء، ولا مكان فيه للضعفاء.
ولهذا التشرذم والتدابر خلفيات تربوية وثقافية مشوشة استقرت فى نفوسنا، أوهام من قبيل: من ليس معى فهو ضدى.
والأمر على النقيض من ذلك: فالاختلاف دائمًا يظهر الحق، والباطل نفسه قد يكون أداة لظهور الحق وانتصاره، والشاعر العربى يقول: وبضدها تتميَّز الأشياءُ، فلولا الظلمة ما أدركنا معنى النور، ولو استوت الخلفية والصورة لما رأينا الصورة، وإنما التباين الماثل بين الصورة والخلفية هو الذى يبرز الصورة ويجعلنا نراها.
وتلك هى سنة الله فى خلقه: أبيض وأسود، حياة وموت، أمنٌ وخوف، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، هود/118
[email protected]