قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

الخيال يكسب


تخيل معى أنك تمتلك مبلغاً محدوداً من المال، فإما أن تختار إنفاق المبلغ لتحيا فترة أطول بتقتيرك وتقليلك للإنفاق، أو أن تبدأ فوراً فى تأسيس مشروع صغير بمبلغك المتواضع، مؤمناً بإمكانيتك فى تحقيق مكسب والصعود والترقى من خلال مشروعك.. أيهما تختار؟.. اختار الأوروبيون المجازفة الحالية والعمل من أجل تحقيق مكسب فى المستقبل، فانتصرت القوى غير التقليدية فى انتخاباتهم.
أنهى فرانسوا هولاند، بانتصاره فى الانتخابات الرئاسية الفرنسية، أحلام منافسه نيكولا ساركوزى فى الاستمرار فى السلطة واستمرار خططه التقشفية لخروج فرنسا من أزمتها الحالية، وعلى غير ما يراه البعض فلست من مؤيدى أن ما رجح كفة هولاند هو أصوات المهاجرين فقط، فدائما وقف اليسار الفرنسى فى صف الأقليات والمهاجرين، بينما يتبنى اليمين خطاباً أقرب ما يكون إلى العنصرية فى مواجهتهم، ومع ذلك كان اليمين ينتصر فى الانتخابات.
أرى أن ما دفع بهولاند إلى قصر الإليزية هو الخيال.. نعم الخيال، ففى الوقت الذى اتفقت فيه كل القوى التقليدية على تبنى سياسات تقشفية وتقليل الإنفاق لإنقاذ الاقتصاد الفرنسى من أزمته الحالية، قدم هولاند حلاً مختلفاً سابحاً ضد التيار العام، بنى برنامجه الاقتصادى على أن مواجهة الأزمة الاقتصادية لا تكون بالتقشف وإنما بزيادة الإنفاق الحكومى وضخ الأموال فى المجالات الاقتصادية المختلفة، لتحقيق عائدات أكبر وهو ما سيدفع الاقتصاد الفرنسى للنهوض من كبوته.
طرح يبدو للوهلة الأولى طرحاً مجنوناً يدفع بفرنسا إلى الإفلاس، لكن أغلبية الفرنسيين رأوا فى هذه الفكرة غير التقليدية مخرجاً وحيداً لبلادهم، فالسياسات التقشفية قد تبطئ عجلة الانهيار، لكنها لن توقفها، وبالتالى لن تحسن الوضع الاقتصادى، وبالتالى يصبح الإنفاق الأكبر للأموال لتحفيز الأسواق بديلاً غير تقليدى عن تقليل الإنفاق.
وزيادة الإنفاق بديل يتسم بكثير من الخيال المبنى على دراسات واقعية ورؤى جديدة. اختار الفرنسيون التفكير خارج الصندوق لحل مشكلاتهم فأصبح هولاند رئيساً لهم، يعمل معهم من أجل تحقيق أحلامهم، مستخدماً خياله وخيال مساعديه والأحزاب التى تدعمه.
ويبدو أن الخيال لم يكن اختيار الفرنسيين وحدهم، بل شاركهم فيه - وفى نفس الأسبوع - اليونانيون والإيطاليون حينما اختاروا الأحزاب التى وقفت ضد خطط التقشف التى طرحتها القوى التقليدية فى البلدين، وطرحت حلولاً مشابهة لحلول هولاند، ففازت تلك الأحزاب بثقة الناخبين فى الانتخابات العامة اليونانية، وتستعد الآن لتشكيل الحكومة، بينما حصدت تلك القوى الحالمة فى إيطاليا أغلبية مقاعد المحليات، وهو ما يعتبر دائماً المؤشر الرئيسى لاتجاه التصويت فى الانتخابات القادمة.
وتعتبر هذه النتائج إيذاناً ببداية خسارة الاختيارات التقليدية فى أوروبا، فهزيمة ساركوزى وحزبه فى فرنسا، والتى غالباً ما ستدفعه لاعتزال العمل السياسى، وكذلك حزب شعب الحرية الإيطالى بقيادة برلسكونى، رئيس الوزراء السابق، وقبلها هزيمة الحزبين الرئيسيين فى اليونان - تعنى أن الشعوب الأوروبية لم تقرر اختيار ما يمكن وصفه باستقرار قائم على استمرار سياسات أدت، خلال سنوات ماضية، لوصول أوروبا إلى أزمتها الاقتصادية الحالية. فالاستمرار فى الاختيار نفسه لن يؤدى إلى نتائج مختلفة، وتطبيق برامج التقشف ذاتها سيؤجل الانهيار لكنه لن يمنعه، بينما اختيار الحلم قد يبدو مخاطرة لكنه سيكون بداية لانطلاقة جديدة.
ما يحدث فى أوروبا الآن - مع الفارق - هو ما يحدث نفسه منذ سنوات طويلة فى بلادنا، ودائماً ما تختار السلطات الحاكمة فى مصر اختيارات تؤدى لانهيار بعد فترة أطول بدلاً من احتمال المكسب القريب، وتسوقها لنا باعتبارها ضمانا للاستقرار، وهو ما نفضله حينما نختار الاستقرار المؤقت فى مواجهة احتمال تحسين الأوضاع ببعض المجازفة، فاخترنا دائما السير وراء السياسيين التقليديين وخشينا اختيار من يطرحون حلولاً غير تقليدية، فنجنى الانهيار المؤجل بديلا عن احتمال المكسب بقليل من الشجاعة والمجازفة، ولا أدرى لماذا نختار اختياراً تقليدياً فى وضع غير تقليدى؟!
لنتذكر سوياً أن ثورة المصريين كانت اختياراً مجازفاً وغير تقليدى، مبنياً على الحلم والخيال منذ بدايتها. فضلت القوى التقليدية منذ بدايتها التفاوض مع مبارك ورموز نظامه لمحاولة الحصول على مكاسب جزئية، بينما اختار الثوار عدم التفاوض إلا بعد رحيل مبارك، ولولا تمسك الثوار بحلمهم لكنا نواجه الآن الانهيار الذى لا رجعة منه، لكن الأمل الآن مازال موجوداً بعد خلع مبارك وحبسه مع بعض رموز نظامه.
والآن نحن نقف أمام الاختيار نفسه، تحاول القوى التقليدية التفاوض مع نظام مبارك للحصول على بعض المكاسب الصغيرة بينما يختار الثوار استمرار ثورتهم لإنهاء الاستبداد وبناء دولة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. فهل نختار الحلول التقليدية والانهيار المؤجل، أم نختار الخيال وتأسيس الدولة الجديدة؟
نقلا عن المصرى اليوم