اشتقت كثيراً

اشتقت كثيراً لشمس استوائية تسطع فيها الحقيقة، فالفضاء السياسى ملبد بالغيوم وتظل علامات الاستفهام قلقة حائرة تقف على باب الحقائق ولا تدخل.. وبالداخل طبخة «المطبعة الأميرية وتسويد البطاقات» وسلق قضية «منع أقباط قرى الصعيد من النزول للإدلاء بأصواتهم»، بيد أن التاريخ شاهد عيان لن تزيف إرادته ولا يعرف الطبيخ.
اشتقت للأمان الذى يجلب لنا سائحاً لن «يطعنه» أحد يلمحه على شاطئ البحر بصحبة امرأة بشورت أو مايوه، وأظن أنه سيتردد فى زيارة مصر لما قرأ وعرف البشاير فى حادث مقتل طالب الهندسة فى السويس، على يد جماعة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، وإن كانت بعض الصحف القومية تدعى أن القتلة بلطجية وترفض - نفاقاً وكذباً - الإشارة للتشدد السلفى أو الإخوانى، فليكن ما يكون.
اشتقت لضحكة مجلجلة من القلب الحزين تجلى الهم والغم، فالكلام الحلو الرئاسى كثير والفعل السيئ أكثر ولو دخلت - افتراضاً - دماغ رئيس البلاد سوف أجد أملاً يطفئه من حوله، الذين ينتظرون منه تسديد الفواتير بالمناصب والأماكن والمواقع، الفروق ليست بعيدة بين «الحرية والعدالة» والحزب الوطنى، سابق الذكر.
اشتقت للإنصاف وإعدام المسميات من القوائم السوداء إلى الفلول، لقد قسمتم ظهر البلد، وجعلتم الناس فصائل وائتلافات، وبالمناسبة «انشغل شباب الثورة فى الجدل والكلام، والكلام والجدل، وغافلوهم ذات صباح بمنصة فى التحرير تعلن الله أكبر.. وكان الذى كان».
اشتقت للسكينة ويبدو أنها أمل بعيد المنال، فقد عرف أصحاب الحاجات والفئويون الطريق للقصر الجمهورى بعد اعتصامات متفرقة فى التحرير، هل يطلع لهم الرئيس ويهدهدهم بكلمتين؟ ذلك أن احتياجات البلد عاوزة خزائن قارون، ومازالوا يرفضون المصالحة مع سكان طرة مقابل «مليارات بالهبل» ترمم المفاصل والعمود الفقرى، لكنه كافر «وعدو الله» وعدو المجتمع من ينطق بهذا الكلام؟!
اشتقت للأدب فى التعاملات بين الناس، فلم أنم ذات ليلة حين رأيت على الشاشة قيادياً ملتحياً يشتم علنا رمزاً مصرياً قائلاً: «يا فلان يا عرة، الثورة مستمرة»، خسئت يا أستاذ، فهذا الرمز حارب اليهود وكنت أنت فى اللفة بالحفاضات ٥ طبقات وأستك.
اشتقت للغد، للمستقبل، للأيام القادمة وهل هى حبلى بالمفاجآت؟ اشتقت للعقول المصرية تتعاون لإخراج البلد الجريح من كبوته وتحويل الطنين الصادر من الفضائيين والمحللين وفقهاء القانون إلى «خطط فعلية» يرسم ملامحها علماء مصر ولن أغفل هؤلاء أصحاب الخبرات فى المجالس القومية المتخصصة وإلا احترفت النفاق، فكل عقل يحمل علم السنين، وإقصاؤهم من المشهد غباء وطنى وادعاء، حتى أمانة السياسات - يا أفاضل - فيها مهارات وخبرات كان نظام «مبارك» يتجمل بها.
اشتقت للرقى وهذا الاختراع المسمى التنسيق الحضارى «!» مثلاً، الكبارى تعود إلى زمانها الأول، بلا مقاه على الأرصفة ولا باعة ولا بؤر، وسط البلد يعود إلى جمالياته ويرحل «الغزاة» الجدد، وهم حزب الباعة المتجولين الذى يفرض وجوده بالسلاح الأبيض والرشاش المختبئ فى شنطة المرسيدس وما خفى كان أعظم.
اشتقت للوفاء وقد انعدم، فما أسهل وصف أحد بأنه خائن وعميل! إن البلد يحتاج إلى عملية «حرث» جديد للتربة المصرية، نخصبها بقيمة العمل، فألمانيا الناهضة فى أوروبا لا تعيش بالنشطاء السياسيين، والنشطاء القانونيين، ونشطاء حقوق الإنسان، وبالمناسبة «أين الرجل المحترم الأشهر حافظ أبوسعدة من قتيل السويس على يد جماعة النهى عن المنكر؟».
اشتقت للفروسية فى زمان تكاثر الأبطال وغياب الفرسان. فكلمة الحق موجعة لأنى أرى البلد فوق «موقد» الصدامات، وصمام الأمان من هذا الحريق هو السلوك لا «التطمينات» بِبُقين والناس تصدق. إن زمن دغدغة الناس بالعواطف ولّى، فالشعب خرج من القمقم ويبحث عن مصباح علاء الدين، والرئيس الطيب اليوم فاتح صدره وفاتح بيته وفاتح مكتبه الرئاسى، ولن يكون كذلك بعد سنة، سيصبح رئيساً بمخالب يفرضها الواقع، والمستجدات والإدارة «بالأمر المباشر» من مرشد الجماعة، هل يحنث الإخوان بالوعود والعهود؟ هذا وارد والتاريخ شاهد.
اشتقت للروقان وليس الخذلان، فالشعوب تبنى نفسها بطاقاتها وسواعد رجالها، ونحن فى حالة كلام.. كلام.. كلام، حتى كدنا نتمنى «الطرش».
اشتقت كثيراً للخيال يحملنى على جناحه بعيداً عن مرارة واقع.. اشتقت للدهشة وقد أصابها الخرس من فرط غرابة سيناريوهات عصفت بقوانين العقل والمعقولية.. اشتقت للعائلة بعد أن مزقتها السياسة: الأب مع أبوالفتوح، والأم مع موسى، والابنة مع العوا، والابن مع صباحى.. اشتقت للفهم: من أين تأتى الأسلحة الثقيلة؟ من أى الحدود؟ من أى المنافذ؟ من أى الأنفاق؟ فيم ستستخدم؟ هل فى حرب لا نعرفها؟ هل لحماية الرئيس؟ هل يعلم الجيش بها؟ هل لدى مخابرات البلد معلومات عنها؟ هل لها استخدام وقائى أم هجومى؟ وقاء ممن وهجوم على من؟ وهل أغلق فمى؟
واشتقت كثيراً للغباء، فالذكاء فى زمن مراجيح السياس، يكلف صاحبه الحزن والأرق والتعاسة والسأم.. اشتقت لقارئة كف أو فنجان.. تقرأ الطالع وتنبئنى عن موقع «المصريين النصارى» على خريطة «الحرية والعدالة» و«النور» بعد شهر العسل.
اشتقت لنفسى، للطفل الذى لم يهاجر من صدرى، لزمن ملاعب الصبا!
نقلا عن المصرى اليوم