المال في الزواج يشبه الملح في الطعام؛ غيابه يُفقد العلاقة توازنها، وزيادته أو سوء التعامل معه قد يجعل الطعم مرًّا لا يُحتمل. فالزواج، رغم أنه يقوم على العاطفة والمودة، إلا أنه يعيش في واقع مادي له حساباته، وفاتوراته، والتزامات لا يمكن تجاهلها. لكن المشكلة ليست في المال ذاته، بل في الطريقة التي يتحوّل بها من وسيلة لتيسير الحياة إلى معيار يقيس الحب، أو ميزان يحكم قيمة أحد الطرفين في عيون الآخر.
كثير من الأزواج يدخلون الحياة الزوجية وهم يحملون في عقولهم معادلات غير معلنة: من يدفع أكثر، ومن يربح أكثر، ومن يُسهم في مصاريف البيت بنسبة أكبر. ومع مرور الوقت، تتحوّل هذه المعادلات إلى جداول خفية من المقارنات، ثم إلى شعور بالغبن أو الاستغلال، وأحيانًا إلى نزاعات صامتة تتغذى على كل موقف مالي، حتى وإن بدا بسيطًا. المشكلة أن هذه الحسابات لا تُكتب في دفتر، لكنها تُسجَّل في الذاكرة والمشاعر، فتثقل القلب بدل أن تُنظّم الحياة.
المال، حين يصبح محور النقاش الدائم، يسحب ببطء المساحة التي كانت للحب، لأن الطرفين يدخلان منطقة المساومة العاطفية: "لقد فعلتُ كذا لأنني دفعتُ كذا"، أو "أنت لم تقدّر تضحياتي المادية". ومع كل جملة من هذا النوع، تتآكل قيمة العطاء الخالص، ويتحوّل المجهود إلى فاتورة يُنتظر سدادها، لا إلى حب يُمنح بلا قيد.
من منظور الرجل، قد يشعر أن مسؤوليته الأساسية هي توفير الأمان المادي، وأن أي تقصير في هذا الجانب يمسّ رجولته أو مكانته في العلاقة. هذا الضغط يجعله أحيانًا أكثر حساسية لأي ملاحظة أو شكوى مرتبطة بالمال، لأنه يراها انتقاصًا من جهده، أو إشارة إلى فشله في القيام بدوره. وإذا شعر الرجل أن المال هو المعيار الذي يُقاس به، فقد يبدأ في الانسحاب عاطفيًا أو في رد الفعل بطرق دفاعية تُزيد الفجوة بينه وبين شريكته.
أما المرأة، فقد تجد نفسها ممزقة بين رغبتها في المساهمة ودعم شريكها، وبين خوفها من أن يتحوّل ذلك إلى حق مكتسب يُتوقع منها دائمًا، أو إلى تقليل من قيمة ما تقدمه في جوانب أخرى غير مادية. المال بالنسبة لها قد يكون رمزًا للأمان أو وسيلة لتمكينها من اتخاذ قراراتها بحرية، لكن حين يصبح أداة لفرض السيطرة أو تقييد حريتها، تتحوّل العلاقة إلى ساحة صراع غير معلن، يختبئ خلف فواتير الكهرباء وأقساط المدارس.
وتزداد حدة الأزمة حين تتضافر ضغوط الحياة المعيشية وارتفاع تكاليف كل شيء مع الروتين اليومي. في هذه الحالة، لا يكون الخلاف حول المال نفسه، بل حول الشعور بالعجز أمام متطلبات لا تنتهي. حين يعيش الزوجان تحت ضغط مستمر لتأمين مصاريف البيت، تتآكل أعصابهما ويضعف صبرهما، فتتفجر المشكلات من أبسط المواقف. وقد يتحوّل كل طلب عادي إلى عبء ثقيل، وكل نقاش مالي إلى ساحة اتهامات متبادلة، لأن العقل مثقل بهموم البقاء، والقلب مرهق من حسابات النجاة. هنا، إذا لم يتكاتف الطرفان لمواجهة الظروف كفريق واحد، يصبح المال قنبلة موقوتة، تنفجر في لحظة إحباط واحدة.
الحل ليس في تجاهل المال أو اعتباره موضوعًا ثانويًا، بل في وضعه في مكانه الصحيح: وسيلة لا غاية. الشفافية في الحديث عن الميزانية المشتركة، وتوزيع المسؤوليات المالية بناءً على قدرات كل طرف لا على الصور النمطية، أمران ضروريان. الأهم من ذلك هو الاتفاق على فلسفة مالية مشتركة: ما الذي نعتبره أولوية؟ كيف ندير الفائض أو العجز؟ ومتى نسمح لأنفسنا بالمصاريف الترفيهية دون شعور بالذنب أو اللوم؟
كما أن من المهم أن يتفق الطرفان على أن العطاء في الزواج ليس دائمًا ماديًا، وأن الجهد العاطفي، ورعاية الأسرة، وإدارة شؤون البيت، كلها أشكال من المساهمة لا تقل قيمة عن المال. حين يتم الاعتراف بهذا التوازن، تقل فرص تحوّل الحسابات إلى مصدر خصام، ويزداد الإحساس بالشراكة الحقيقية.
في النهاية، الزواج الذي يُقاس فقط بالأرقام هو زواج هش، لأن المشاعر لا تُقاس بالعملة، والعشرة لا تُختزل في ميزان الإيرادات والمصروفات. المال يمكن أن يكون جسرًا يقرب بين الزوجين إذا أُدير بحكمة، لكنه قد يصبح جدارًا سميكًا إذا أُسيء التعامل معه. ولأننا لا نستطيع العيش بلا مال، لكن يمكننا العيش بلا خصام، فإن الخيار دائمًا بأيدينا: أن نضع المال في خدمة الحب، لا الحب في خدمة المال.
ولعل أجمل ما يمكن أن يقوله أحدهما للآخر، وسط ضجيج الحياة وفواتيرها، هو: "لسنا ضد بعضنا، نحن معًا ضد الظروف". فحين يشعر كل طرف أن الآخر هو سند لا خصم، وأن الحب أكبر من الحسابات، يصبح المال مجرد ورقة في دفتر الحياة، بينما تبقى المودة والرحمة هي العملة التي لا تفقد قيمتها أبدًا.