الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الفساد أكبر من الرقابة


فرق كبير بين التشاؤم وبين الواقعية , ولذا عندما أقول إن الفساد فى مصر أكبر من كل الاجهزة الرقابية حتى ولو ضاعفنا عددها مرات عديدة، لا يعنى هذا أننى متشائم من قدرة هذه الاجهزة على كشف ومكافحة الفساد , ولكنها نظرة واقعية على ما آلت اليه الامور فى مصر خلال السنوات الاخيرة , ولا يعنى ذلك بكل تأكيد أن نيأس من العمل على تطهير بؤر الفساد المستشرية فى أى مكان فى مصر بالوسائل الرقابية المتاحة , بل يعنى ضرورة البحث عن حل جذرى للمأساة نقضى به على مسببات الفساد ونغلق به أبوابه.

فتعقيم جذور الأمور أفضل من مداواة الاوراق والفروع ، فكلما قصفنا فرعًا أو أحرقنا ورقة من شجرة الفساد المترعرعة سينبت لها فرع جديد , وستمتلئ الفروع بأوراق جديدة , وهذه هى سنة الحياة , ولذا فالتعقيم هو الحل.

والتعقيم من الناحية الطبية إجراء احترازى يقوم به الجراح الذكى قبل بدء العمليات , فيعقم يديه ويعقم الادوات المستخدمة فى العملية ويعقم مكان العملية فى جسم المريض نفسه , ويعقم حجرة العمليات بكاملها , كى يضمن أن يؤدى عمله إلى إنقاذ حياة المريض أو حتى تجميل جسده دون ان تفسد الجراثيم والميكروبات مجهوده , ويجد نفسه محل اتهام من المريض , ويتحول بسبب فساد البيئة المحيطة أو فساد الادوات المستخدمة من منقذ للمريض الى مدمر له فى عيون الناس.

لذا فإن التعقيم هو المطلوب عند البدء فى أى عملية إعادة بناء للدولة المصرية على أسس عصرية حديثة , وحجرة العمليات هنا هى بيئة العمل , وتعقيمها مراجعة كل النوافذ التى يدخل منها الفساد وغلقها تمامًا , والجو المحيط فى غرفة عمليات مكافحة الفساد هو الجو العام فى المجتمع.

فالحديث عن مكافحة الفساد فى جو مليء بالفساد فى شتى نواحى الحياة مهما كان صغيرًا سيكون نوعًا من خداع النفس , فالمجتمع نفسه يجب ان يكون صالحًا لذلك بمعنى مستعد لمكافحة الفساد , وذلك بنشر ثقافة الخير والحق والعدل والمساواة فى الفرص.

والمساواة فى الفرص تأخذنا لمرحلة تعقيم الجراح يديه , ويد الجراح فى مكافحة الفساد هنا هى الاجهزة الرقابية نفسها , فحتى كتابة هذه الكلمات انا لا أعرف معايير تعيين الناس فيها , ولذا أعتقد عن جهل منى أن الواسطة هى كلمة السر للدخول اليها , ولا يوجد شئ فى العالم اسمه جهاز رقابى صار حكرًا على عائلات أو طبقات أو فئات بعينها مهما كانت حساسية وخطورة العمل فيه , فكل الاجهزة مهما عظُمت مهامها هى ملك للجميع , وبالتالى مفتوحة أمام الجميع , فعدالة الفرص المتساوية فى الاجهزة الرقابية تقوى المجتمع.

وعدالة الفرص هذه تأخذنا فى طريقها الى المساواة المفقودة فى كثير من التعيينات وفى بعض المناقصات والممارسات وفى بعض أمور الحياة , وهى من أهم أسباب تفشى الفساد , وبعض اللذين ينتقدون فساد التعيينات سيكونون أول من يشارك فيها اذا أتيحت لهم الفرصة لذلك , لأنه أصبح هناك اعتقاد يصل الى حد اليقين لدى كثير من الناس أن فرص التوظيف على سبيل المثال غير متساوية وغير عادلة , فمن يملك المال أو النفوذ أو السلطة يملك فرصة اكبر للعمل من غيره.

ولذا فإن تطبيق مبدأ العدالة فى توزيع الفرص بين جميع المواطنين ستجعل الكل حريص على الشفافية فى كل شئ , لأنه سيشعر بالعدل والشعور بالعدل يؤدى الى الشعور بالرضا ,والشعور بالرضا يجعل الكل حريص على الخير والحق فى تعاملاته مع الآخرين , فمع تفشى عدم المساواة تراجع الشعور بالرضا , وتراجع معه الولاء , ومع تراجع الولاء نما حب النفس والرغبة فى الاستحواذ على كل ما يستطيع الحصول المرء عليه سواء بحق أو بغير حق بخير أو بشر.

وعملية تعقيم المريض نفسه فى غرفة العمليات هى نفسها عملية تعقيم فكر المواطنين من اللجوء للطرق غير المشروعة للحصول على الحقوق أو ما يعتقدون أنه حق لهم , وذلك يقتضى من الدولة الشفافية فى كل التعاملات المادية والمعنوية وفى كل شئ من أمور الحياة كى نغلق باب وساوس الشيطان فى أن كل شئ مرتب لمصالح شخصية وأن كل شئ فاسد , وهو غير صحيح بالمرة , فمهما تفشى الفساد فأن الاصل هو النزاهة فى المجتمع , ومهما علا الباطل فأن الحق أعلى منه , والخير ينتصر دائمًا , والشرفاء هم الاغلبية دائمًا.

أعلم أن مصطلح الشفافية يثير حساسية لدى بعض الاجهزة الحساسة فى مصر , لأن البعض يعتقد ان الشفافية والأمن القومى يتعارضان فى كثير من الاحيان , وهو شئ أعتقد أنه ميراث عصر ما قبل السماوات المفتوحة والاقمار الصناعية وقواعد البيانات والانترنت وشركات التجسس الاقتصادى , فلم يعد هناك أسرار فى العالم اليوم , فالمعلومة الواحدة صار يمكن الوصول اليها وتحليلها وبناء خطط العمل عليها بطرق لا تعد ولا تحصى , ولذا صار التعتيم مجرد تغطية للضوء الساطع بطبقة من السوليفان الشفاف لا أكثر ولا أقل.

وبكل تأكيد مكافحة الفساد لا تكون قاصرة أبدأً على كشف قضية كبرى كل حين فقط لا غير, بل تكون بمنع مسببات الفساد فى المجتمع , فما دامت أسباب الفساد قائمة فلن تجدى معها أى أجهزة مهما كبر عددها ومهما زادت سلطاتها , امنحوا الجميع فرصاً متساوية فى كل شئ , وأكدوا لهم أن ذلك صار ملكاً لهم , وساعتها سنجد المجتمع كله حريصًا على النزاهة والشفافية فى كل شئ.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط