متى تنتج مصر ماكرون؟

أثار فوز الشاب الفرنسى ماكرون صاحب الـ 39 عامًا برئاسة الدولة الفرنسية كأصغر ساكن للإليزيه ضجة عالمية، فتناولته صحف الغرب بهدوء وحللت ملابسات فوزه ونقاط قوته وأجواء المنافسة كدروس مستفادة فى علم السياسة، فى حين ركزت وسائلنا الاعلامية العربية على فارق السن الكبير بينه وبين زوجته! (معلمته السابقة) والسيدة الأولى لفرنسا الآن؛ مما يثير تساؤلات عدة .
أهذا الذى يعنينا؟ – فارق السن بين الرجل وزوجته – ولم نشتغل بتأثير هذا التحول الفكرى على بلداننا على مستويات مجمل العلاقات الفرنسية بين العرب عامة ومصر خاصة، هذا فى ظل أيديولوجيا شابة ومفاهيم يُعاد صياغتها وترميمها وعالم يتغير بوتيره أسية (سريعة جدًا)، ولم يثر هذا الحدث لدينا فضولًا ليجعلنا نسأل سؤالا مركبا... ماذا ينقصنا نحن العرب لانتاج مثل ماكرون فى أقطارنا العربية؟ لننفض عنها غبار الأطلال الحضارية، وما محتواه التعليمى والثقافى؟ وما طبيعة أفكاره وظهيره السياسى؟ وما تكلفة وعائد انتاج مثل هذا النموذج بمكونات محلية متوفرة لدينا؟
وبما أننا سألنا سؤالًا...فلنحاول تفكيكه وتشريحه والاجابة عنه ببساطة... وجب أولًا فض الاشتباك بين التعليم والثقافة أخذًا فى اعتبارى أنهما راسخان فى العقل الجمعى العربى على أنهما مترادفان أغلب الوقت، لكنهما ليسا كذلك، ولا أجد أبلغ من التوصيف الآتى لفيلسوف الجزائر مالك بن نبى حول ماهية التعليم والثقافة، يروى قصة حدثت بالفعل فى الجزائر، أن اثنين من الأطباء الجزائريين أحدهما مسلم والآخر من الطائفة اليهودية قد تعلمَا على نفس مقاعد الدراسة وتتلمذا على يد نفس الأساتذة، وقد تخرجا أيضًا فى دفعة واحدة، وقد أتيح لابن نبى تتبع سلوك كل من الرجلين عن كثب، فرأى عجبًا، فالظرف التاريخى حينئذ أن الجزائر كانت ترضخ تحت الاستعمار الفرنسى، وكان الأخير متمكنًا من تلابيب البلد إلى الحد الذى منع النشء والشباب من الذهاب لمدراسهم، وتعمُد انتاج الجهل فى الجزائر وعلى نطاق واسع، وطال الاضطهاد الجميع وطُبقت قوانين ضد الأقلية اليهودية فى فرنسا وفى الجزائر على حد سواء، وتم تطبيق ما سُمى حينها بقوانين (هابرغ) وفيها تم تحديد نسب التحاق أبناء اليهود قاطنى الجزائر بسنوات الدراسة، أى نسبة فى المرحلة الابتدائية، يليها نسبة أقل - وبعشوائية وليست بفرز الأفضل- هى من تصل للمرحلة الثانوية، إلى أن انعدمت تلك النسبة تقريبًا فى الجامعة.
وقد تبنى الطبيب العربى المسلم مواقف غضب جمة، مشوبة بعبارات الاحتجاج والاستهجان ضد ممارسات الاستعمار وحرمان أبناء الجزائر من التعليم بما تحويه من أغلبية عرب مسلمين وأقلية يهود وكفى، فى المقابل صمت الطبيب اليهودى ولم يرتفع صوت أى يهودى آخر بعبارات احتجاج ومطالبة حكومة (بيتان) بالعدول عن مواقفها ضدهم، وإنما فى هذه الأثناء تم تنظيم المجتمع اليهودى الصغير (الأقلية) المتعلم من الداخل، حيث أصبح كل حامل لدرجة علمية من التعليم مدرسًا فى بيته من الابتدائية وحتى المستويات العليا من التعليم.
وفى تلكما السنتين "العجاف" من 1940 -1942 لم يضع على أى طفل أو شاب من الطائفة اليهودية أى دروس، وكان تتويجًا لذلك ونتيجة منطقية له أن تفُاوض رئيسهم وصاحب هذا النموذج الثقافى الفريد والمؤثر والفعال – الطبيب اليهودى سابق الذكر مع قيادة الحلفاء باسم الجزائر، فى حين تقهقر الطبيب العربى المسلم ( الزعيم الكبير) والذى استحوذ على ما يقرب من 90% من أصوات الجزائريين.
وهنا يتضح جليًا الفروق الجوهرية بين التعليم والثقافة، فنحن بصدد شخصين اتفقا فى العلم واختلفا جذريًا فى الثقافة، وكانت محصلة رصيد الفاعلية والتأثير هى لصالح الطبيب اليهودى الجزائرى، حينما أسفرت المعادلة فى تحليلها النهائى على نموذج جاهل وآخر متعلم.
فهل لنا أن نعيد حساباتنا ونعيد صياغة الأُطر العلمية والثقافية على مستوى كامل النسيج العربى بوجه عام، والتطبيق على الحالة المصرية كنموذج أولّى (Prototype) يتم محاكاته لاحقًا على الدائرة العربية الأوسع؛ هذا لأن المبادرة والمبادءة دائمًا وحصريًا من مصر، بما يسمح لنا بإنتاج ماكرون" فعال ومؤثر على طريقة الطبيب اليهودى فى المقاربة البسيطة سابقة الشرح.
وأخيرًا...المعرفة والتعليم والثقافة وتحديد نواتجهما وتقييم وتقويم تلك النواتج ( المخرجات)، هى من أهم السُبل لإنتاج "ماكرون" عربى / مصرى بتراب وإنسان ووقت ينتمون لجغرافيتنا وتاريخنا وحضارتنا.
الخلاصة...أخشى على العرب عامة وعلى مصر خاصة أن يفوُتوا فرصة إنتاج " ماكرون" شكلًا ومضمونًا دون الاستعانة بصبغات الشعر.