الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

بدعة الدولة القوموية والفردوس المفقود


تشكلت الدول القوموية في منطقتنا منذ بدايات القرن العشرين، والتي بدأت من العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد ساهمت في بنائها المملكة المتحدة "بريطانيا"، بعدها تتالى تشكيل الدول بعد اتفاقيات سايكس بيكو ومنها من كانت دولًا قوموية، ومنها الدينية التي تشكلت على أنقاض إمبراطوريّة الرجل المريض العثمانية، وقامت ثورات عديدة تحت مسميات الاستقلال الوطني والسيادة حتى قبول تلك الدول في عصبة الأمم وبعد ذلك كدول "مستقلة" في الأمم المتحدة.

بعد قرن من الزمن ونحن في بدايات القرن العشرين ندرك جيدًا أننا قد أضعنا من عمرنا الكثير، وكذلك آباؤنا وأجدادنا في تضحيات لم تكن تلك القدسية التي آمنّا بها لزمن طويل، فراحت تلك المصطلحات تتساقط الواحدة تلو الأخرى كأوراق الخريف التي تقذف بها هنا وهناك ريح غير قوية، ما يدل على أنّ تلك المصطلحات لم تكن من جوهر هذه المنطقة وحقيقتها.

وتغنينا كثيرًا عن الدولة القوموية، التي تقول: إنه لا يمكن للإنسان أن يعيش من دون دولة. وعلى كل من يمتلك ولو ذرة من الكرامة عليه أن يضحي بذاته من أجل بناء هذه الدولة والحفاظ على حدودها وسيادتها تجاه أي عدوان تتعرض له. وتغنينا أيضًا عن الأمة العربية الواحدة والحلم الذي ناضلنا من أجله كثيرًا إن كان عن قناعة أم مرغمين فالأمر سيَّان، وأنه لا بديل عن هذا الحل إن أردنا الاستقرار والاستمرار والديمومة في حياة كريمة. لكنها هذه الأحلام والأوهام في أوحال الصراعات التي تعيشها المنطقة تحت مسمى الربيع العربي، وكأننا كنا نعيش قبل هذه الثورات قد سقطت في شتاء قوموي ودينوي طويل.

وانطلى هذا المصطلح أيضًا على السذج من أبنائنا الذين انتفضوا منادين بالحرية والكرامة اللتين هما مطلب مشروع وشرعي، ولكن تحولنا بعد ثورات الربيع العربي إلى أكثر من بيادق وعبيد وأدوات وخنجر نلطم به تاريخنا المزيف وحاضرنا خائر القوى ومستقبلنا المجهول، نعيش بين الأمواج المتلاطمة ولم نعِ بعد أن الأمواج هي من تحدد وجهتنا وقرارنا ومصيرنا.

حالة من الطوفان نعيشها ونخدع ذاتنا أن كل شيء على ما يرام وألّا حل أمامنا سوى التمسك بأهداب الدولة القوموية والدينية التي راحت هي أيضًا تتهاوى أمامنا كأحجار الدومينو الواحدة تلو الأخرى. وقد بدأت من العراق واستمرت بتونس وليبيا وسوريا واليمن والمغرب والآن قطر والسعودية وتأثرت بها مصر وباقي الدول، وما هي إلا تحصيل حاصل ستتهاوى وإن كانت بعد حين.

إنّ تشخيص المرض بشكل سليم سيؤدي بنا إلى اختيار الدواء الصحيح كي نحصّن أنفسنا من الضياع في عالم مصطلحات التجربة الدوائية، فلا تكمن العلّة في مرضنا بقدر ما هي موجودة في اختيارنا للدواء الذي كنا نستعمله طيلة القرن العشرين، فلم نكن حينها في حالة صحية سليمة البتة حتى نختار نفس الدواء لمرض ومريض يعاني من داء آخر.

فليست المشكلة في المرض بل في اختيار نوعية الدواء، وهذا مرده للأطباء الذين يصفون نفس الدواء لكل الأمراض، والعلة فينا أكثر لأننا نقبل هذا الواقع على أنه الحقيقة.

لا يمكن الوصول إلى الحرية إلا من خلال بحثنا عن الحقيقة المخبأة في ذاتنا وتاريخنا وثقافتنا ومجتمعيّتنا الإنسانية. فالحقيقة التي ينبغي إدراكها أن منطقتنا غنية بشعوبها وثقافاتها ودياناتها وليست مقتصرة فقط على شعب معين ودين وحيد دون الآخر، فالتعصب القوموي والدينوي هو أساس ما نعانيه من أمراض، وبدلًا من البحث في الدولة القوموية والدينوية على أنها الحل والفردوس المفقود، لِمَ لا نحيا ونعيش في جمهوريات ديمقراطية يعيش فيها الكل مع الكل بدلًا أن يكون الكل ضد الكل، وبدلًا من الدولة القوموية لتكن الجمهورية الديمقراطية، وبدلًا من الأمة العربية والإسلامية لتكن الأمة الديمقراطية التي تحتضن كل الثقافات والأديان والمجتمعات والشعوب في جنباتها كما قال السيد عبد الله أوجلان.

بدعة الدولة القوموية والدينوية ما هي إلا مصطلحات اخترعتها لنا الحداثة الرأسمالية، وجرّعتنا إياها على أنها الدواء الناجع لما نعانيه، لكنه تبين أنه الدواء القاتل لمجتمعاتنا وثقافتنا وهوياتنا كما قال إدوار سعيد في "هويات قاتلة".

وما هي إلا بدعة تجرّعناها بكل إرادتنا بعد أن عزفتها لنا قوى الحداثة الرأسمالية على أوتار العاطفة والنية الحسنة وجعلناها من المقدسات والتابوهات التي لا يمكن المساس بها، حتى بتنا وأصبحنا وثنيين أكثر من الوثنيين القدماء.

ورحنا نبني المعابد القوموية والدينوية كي نتقرب من الله ونسينا أنّ الله موجود في داخلنا وليس في الخارج، كما كتب جون ميلتون ملحمته الشعرية الفردوس المفقود (Paradise Lost) عام 1667، حيث انتقد ميلتون الوثنية لأنه يكمن سببها في نظرية بناء معابد وأبنية أخرى كأماكن للعبادة.

ويحاول آدم "الانسان" التكفير عن ذنبه بعرضه بناء المذابح لعبادة الله، حين قال له الملاك ميخائيل بقوله: "آدم ليس محتاجًا لبناء شيء لاختبار حضور الله"، وحتى لو قام أحد بتأسيس مبنى باسم الله فإن أفضل النوايا يمكن أن تكون عديمة الأخلاق.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط