الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أسامة الزغبي يكتب: بطليموس الأول.. عبقرية القيادة

صدى البلد

تدين أسطورة مصر التاريخية لقادة عظام عرفوا قدرها بين الأمم ونفذوا ببصيرتهم إلى حقيقة جوهرها، فامتلكوا مفاتيح شعبها وأضاف كل منهم مجدا جديدا سُطِر بحروف من نور فى كتاب حضارتها العريقة.

من بين هؤلاء القادة بطليموس الأول، مؤسس الأسرة البطلمية فى مصر، والتى يرى بعض المؤرخين أنها تمثل امتدادا حضاريا لمصر الفرعونية.

هو ابن نبيل مقدونى يدعى لاجوس وأمه تدعى أرسينوى، والتى ربما كانت تمت بصلة قرابة للأسرة المالكة المقدونية، قضى فترة شبابه فى البلاط المقدونى وسريعا أصبح من أصدقاء الأمير الشاب الإسكندر.

يُذكر أن فيليب المقدونى، والد الإسكندر، كان يغار من شعبيته، وبالتالى قام بنفيه للخارج، ولكن أعاده الإسكندر ليصبح من قواده فى أولى حروبه ضد فارس، ومنذ هذه اللحظة لم يفارق الإسكندر الأكبر أبدا وشارك فى كل حروبه ونال بسبب شجاعته فى حرب الهند لقب قائد. ولد فى 366 ق م فى مقدونيا وتوفى عام 285 ق م فى مصر.

بعد الموت المفاجئ للإسكندر الأكبر فى عام 323 ق. م وبسبب عدم تركه وريثا شرعيا، وذلك لأن زوجته الفارسية روكسانا لم تكن قد أنجبت بعد، اتفق قادة الجيش وهم سلوقس وبطليموس وأنتيوجونوس وكاسندر وليسماخوس فى بابل على تقسيم الأمبراطورية المترامية الأطراف بينهم كقادة محليين يتبعون سلطة مركزية فى مقدونيا تحت رئاسة القائد برديكاس على أن يتم تنصيب فيليب أرهيديوس وهو أخ غير شقيق للإسكندر الأكبر، ويقال إنه كان يعانى من قصور عقلي كملك على كل الأمبراطورية انتظارا لمولود روكسانا التى أنجبت لاحقا طفلا سُمى "الإسكندر الرابع" وتم تنصيبه كملك مشارك.

تم اغتيال فيليب أرهيديوس على يد أولمبيا، أم الإسكندر الأكبر، ولاحقا تم اغتيال ابنه الإسكندر الرابع على يد كاسندر.

أسفرت القسمة عن استحواذ بطليموس على مصر التى وصلها فى 323 ق. م وتمكن بفضل حنكته السياسية من ضم عدد كبير من كبار القادة فى جيش الإسكندر إليه، وأيضا بفضل براعته العسكرية تمكن من ضم أجزاء من شرق ليبيا إلى ملكه فى مصر.

فى بداية حكمه فى مصر، قام بقتل كليومينيس الذى كان قد عينه الإسكندر على مصر كجامع للضرائب بعد اتهامه بالفاسد المالى وبالتالى أصبح هو الحاكم الأوحد عليها.

من أبرز الأمثلة على دهائه السياسى هو اختراعه -  كما تذكر بعض المصادر - لأسطورة أن الإسكندر الأكبر كان قد أوصى بدفنه فى مصر وبالتحديد فى معبد الوحى الخاص بالإله أمون فى واحه سيوة، وهى قصة لا يوجد عليها سند فى حياة الإسكندر، ولكن ربما اختلقها بطليموس اعتقادا منه أن دفن الإسكندر الأكبر بمصر سيمنحه عضدًا كبيرا فى الحكم، فجريا على العادة اليونانية كان يتم تأليه مؤسسى المدن وباعتبار أن الإسكندر هو مؤسس مدينة الإسكندرية فسيصبح إلها وستُشد الرحال إلى قبره لزيارته.

وبالتالى قام باعتراض الموكب الجنائزى للإسكندر عندما وصل إلى سوريا وقام بأخذه إلى مدينة منف التى كان لايزال يحكم منها قبل انتهاء إنشاء مدينة الإسكندرية ومكث هناك فترة إلى أن قام ابنه بطليموس الثانى فيلادلفيوس بنقله إلى الإسكندرية.

وتتحدث العديد من المصادر عن أن شخصيات مهمة مثل كليوباترا السابعة ويوليوس قيصر وأغسطس أوكتافيوث وكاليجولا وكاراكالا قاموا بزيارته، بل واستمر الناس فى زيارته حتى القرن الثالث بعد الميلاد.

أثار انفراده بالحكم فى مصر وكذلك الشرعية التى نالها بسبب وجود قبر الإسكندر بها وأيضا التحالفات التى عقدها بطليموس مع قادة قبرص التى قال عنها الإسكندر إنها مفتاح مصر حفيظة القائد برديكاس فى مقدونيا، وبالتالى قرر الأخير غزو مصر.

تتبدى عبقريته وحنكته السياسية مرة أخرى فى تمكنه من استمالة عدد كبير من جنود برديكاس الذين انقلبوا عليه حتى قتله أحد جنوده، كذلك لم يرغب فى استغلال وجود الملوك الشرعيين القُصَر فيليب أرهيديوس والإسكندر الرابع اللذين كانا برفقة برديكاس فى إصدار أوامر باسمهما حتى لا يؤلب ذلك عليه باقى المنافسيين. وفى عام 305 ق م قام بتنصيب نفسه حاكما مطلقا على مصر.

نال لقب "سوتير"، ويعنى المنقذ، بسبب مساعدته لأهل رودوس أثناء حصار ديمتريوس الأول، ابن أنتيوجونوس، لها ولكنها صَمدت بفضل مساعدات بطليموس لها.

تمكن أيضا من ضم سوريا لمُلكه علما بأنه لم يشترك فى الحرب عليها ضد أنتيوجونوس، وذلك أيضا يجب اعتباره مثلا أخر على عبقرية سياسية نادرة جعلته ينال ما يريد بدون خسائر.

يُعتبر بطليموس هو أول من سك العملات المعدنية فى مصر التى لم تعرفها من قبله، كذلك تم وضع حجر الأساس لكل من مكتبة الإسكندرية والفنار.

تتحدث الكثير من المصادر التاريخية عن كونه محبا للعلوم والفنون وكان مثقفا حقيقيا وقِيل إنه ألف كتاب عن حروب الإسكندر الأكبر.

تتبدى عبقرية هذا القائد الفذ فى فهمه العميق لشخصية مصر، حيث وجد أنها بثقافتها العريقة ليست هى البلد الذى يذوب فى ثقافة المحتل بل العكس هو الصحيح، وبالتالى لم يفعل شيئا بل ترك كل شيء على ما كان عليه أثناء عهد الفراعنة ولم يقم بتحصيل الضرائب على أراضى المعابد، بل وبسبب ثقافته الرفيعة قام باستحداث ديانة جديدة أدخل فيها تأثيرات يونانية وأخرى مصرية وهى عبادة سرابيس الذى عبده المصريون فى شكل العجل أبيس وعبده اليونانيون فى شكل زيوس، إله الأوليمب، وذلك من أجل توحيد أو على الأقل إيجاد مشترك عقائدى بين الثقافتين يمكن أن يؤلف بينهم.

ربما نجد فيما فعله نابليون بونابرت أمرا مشابها عندما أرسل إلى علماء الأزهر خطابات يقول فيها إنه مسلم وجاء إلى مصر كى يخلصها من المماليك الظالمين لأهلها، أى أن احترام ديانة المصريين وترك الحرية الدينية لأهلها ظل أمرا حتميا على مدار تاريخيها فى تقبل الغازى، ويمكن لهذا أن يفسر ولو جزئيا لماذا لم يتقبل المصريون حكم الهكسوس والفرس الذين لم يحترموا عقائد المصريين بل وتهكموا على آلهتها.

عندما بلغ سنا متقدمة واستشعر عدم قدرته على القيام بأعباء الحكم، تنازل عن العرش لابنه بطليموس الثانى فيلادلفيوس، وهو ابنه من الملكة برنيقى الأولى وهو مثل آخر على مدى الحنكة السياسة التى كان يتمتع بها.