سارة أنور تكتب: "أصل البعيد أعمى"
كُنت صغيرة عندما كانت جدتي تخبر أمي بأن البعيد أعمى القلب والنظر، وببراءة طفولية جميلة، كنت أتخيلهم يتكلمون عن انسان يحمل عصا بيده ولا يرى، ولكن مع مرور الخيبات، الواحدة تلو الأخرى، أدركت أن ذلك البعيد الأعمى ليس بالضرورة، أن يحمل عصا، وحتى أنه إذا قاس نظره لكان نظر البعيد 6 على 6، فكم من ضرير يحمل عصا، ولكن يبصر وكم من بصير لا يرى ولا يفقه، ولو أن البصيرة بالرؤية لكانت طيور السماء تبصر أفضل منا جميعا!
قرأت يوما أنه لكي تطلق على الصمت انه صمت كبار، عليك أن تعرف الفرق بين الصمت الكبير وصمت الكبار، فالصمت الكبير يقاس بمدته، أما صمت الكبار فيقاس بوقعه..
صمت الكبار صمت راق، سيمفونية غير ناطقة تتخللها نظرة، هو فترتان من السكون بينهما نظرة، تتخللهما لحظة تنقطع فيها الأنفاس، النظرة حياة من نوع أخر نوع فاخر، فكم من نظرات أخفينا فيها العشق المكنون، وكم من نظرات حملت فى طياتها سنين من الشوق، نظرات كتمت بداخلها غضبا عارما، نظرات خيبة تنهش فى جدار الروح، نظرات غيرة.
نظرات تحوى كلمات لن تنطق، نظرة فراق تذهب بك لطريق اللارجعة، ونظرة تستميت لتخرج المشاعر المكتومة، ولو أن الحياة هنا تقاس بالنظرات، لقيست بعمق امتداد اللحظة أى النظرة وليس بطول مدتها، لا تجعل نظراتك فارغة ياعزيزى فهناك بشر نظرتهم كالنيزك لا ترحل دون أن تترك أثرا يرى ويسمع.
غدا لن أخبر ابنتى بأن البعيد أعمى، سأخبرها بأن هناك الكثير من البصائر المزيفة، وأن لا تأمن أبدا لأصحاب النظرات الفارغة لمن ينظر ببلاهة وبلا هدف، وأن لا تمسك بيد من يرى، ولكن لا يبصر حتى لا يأتى بها ارضا فتنكسر، سأخبرها بأن النظرات هى الحياة، والحياة فى عمق امتداد اللحظة، وأن الحياة تكمن فى اللحظات التى تقطع الأنفاس، ولا تقاس باللحظات التى نتنفس بها، وأن تنظر هى أولا للحياة ببصيرة جميلة حتى تنظر لها الحياة بجمال.
ياعزيزي.. أبصر ما حولك، وانظر للأمور بفهم، فالكلمات لا تفى دوما بالغرض، العين لغة لا يفهما سوى قليلين، فالعين تخبر بما لا يقال، ووحده البصير من يفهم، لأن العمى هو فقد البصيرة وليس البصر، فهناك فرق بين العين التى تنظر والعين التى ترى، فعصى الضرير تبصر أفضل من مبصرين كثيرين.
دمتم مبصرين..