الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

صراخ التطبيق.. وصمت النظرية!!


نفكر ونفكر ثم لا يكتب لهذا التفكير أن يستمر ويُثمر تفكيرًا أكثر نضجًا وعمقًا، لماذا؟ لأننا من البداية نفكر في ربط هذا التفكير بمخرجات تطبيقية، فيكون عدم وجود أفق تطبيقي لأي فكرة هو بداية النهاية والموت والفناء لتلك الفكرة إلى الأبد، ومن هذا المنطق يكون التفكير مُحددًا وذي إطار ضيق من بدايته عندما نربطه بتطبيق، فيفقد التفكير أهم دعائمه "الخيال"، الخيال، الذى بسببه تم انتقال مركز الثِقل العلمي والمعرفي وبالتبعية الاقتصادي والثقافي والاجتماعي من أوروبا إلى أمريكا باتباع نمط فريد من التفكير.

بدأت القصة مع Louis & Caroline Bamberger رجل الأعمال وأخته، اللذان أعربا عن رغبتهما بالتبرع بمبلغ من المال؛ لإقامة صرح تعليمي طبي، جامعة أو ما شابه، في ولاية نيوجرسي الأمريكية التي احتضنت أعمالهما ونجحا فيها، كنوع من رد الجميل لسكان الولاية، فذهبا إلى العالم إبراهام فلكسنر، المهتم بالتعليم عمومًا، والطبي منه خاصة -عمل مستشارًا لعدة مؤسسات عالمية مثل مؤسسة فورد- وقالوا له مقترحاتهم، فتدخل بثاقب فكِره واقترح إقامة مؤسسة لإنتاج وصناعة المعرفة دون التقيُد أو الالتفات لمجالات تطبيقية كمخرجات لتلك المعرفة، وكان له ذلك، فأخذ يتواصل -في زمن عَزَت فيه وسائل الاتصالات– مع كل العلماء الأبرز في العالم وفي مختلف التخصصات، علماء على وزن ألبرت إينشاتين مؤسس النسبية، وآلان تورنج أبو الحواسيب وغيرهما. فكان يقول العالِم منهم أثناء التفاوض معه للانضمام لتلك المؤسسة، ما هي واجباتي؟. ماذا عليّ أن أقدم كمسوغ للانضمام لتلك المؤسسة؟ فيُقال له لا شيء فقط تفُكر منفردًا تارةـ، ومع رفاقك تارة أخرى في جلسات موسعة أشبه بالعصف الذهني، وفي كل الموضوعات دون قيد أو شرط، وكل ذلك خاضع لتوثيق من قِبل المؤسسة ليكون رصيد وإنتاج معرفي آخذًا في التراكم.

ويبدو لي أن الفلسفة الإطارية لفلكسنر آنذاك هي إتاحة فرصة مجردة لهؤلاء العلماء الكبار بالسباحة ضد التيار التطبيقي الضيق، وأن يتركوا العنان لخيالهم طليقًا كموج بحر بلا شواطئ تقيده وتحدد حركته وتفرض عليه شروط تحد من فاعليته وتأثيره.
تجربة فلكسنر تلك سمحت للمعرفة بالمرور بمراحل نمو طبيعية دون إضافة مُعجلات تُسرع من نموها وتخرجها من مسارها وتُعامل المعرفة كاستثمار له مردود مادي سريع. فمرور الفكرة بمرحلة ميلاد ثم طفولة وشباب وشيخوخة هو مسار طبيعي يُسهم في موت فكرة وميلاد أخرى مُتعلِمة من سابقتها وتحمل جيناتها وسلوكها وطفراتها المعرفية.

مُجمل القصة السابقة وردت تفصيلًا في كتاب صغير الحجم لكنه عظيم القيمة تحت عنوان غريب ومثير The Usefulness of Useless Knowledge (فائدة المعرفة التي هي عديمة الفائدة)، وهو عبارة عن مقالين طويلين بعض الشيء، الأول كتبه فلكسنر عام 1939 شرح فيه أُطر فلسفية لتجربته السابق وصفها، والثاني كتبه روبرت ديجراف – المدير الحالي لمعهد الدراسات العليا، برينستون، نيوجيرسى - عام 2017، والذي يعتبر شرحًا تفصيليًا وتعقيبًا على المقال الأول، وكيف أفرزت التجربة تطبيقات كثيفة المعرفة بعد 50 عامًا.

ويؤكد ديجراف أن فلكسنر بتجربته تلك قد نقل مركز الثقل المعرفي من أوروبا إلى أمريكا. وعلق أنه عندما توفى فلكسنر نعته النيويورك تايمز - الجريدة الأشهر في أمريكا– بالكلمات التالية:
" أنه لم يُساهم أمريكي من عصره أكثر مما ساهم هو في الحياة، وفي رفاة المعيشة بالنسبة لبلده وللبشرية جمعاء وإلى الآن"، لأنه سمح بإنتاج معرفة أحدثت قفزات عملاقة جدًا في العلم وتطبيقاته، وعليه، ووفق آخر إحصائيات فإن ما يربو على نسبة الـ 30% -( الثلث تقريبًا) - من الناتج المحلي الأمريكي هو ناتج تطبيقي مباشر لأفكار كثيفة المعرفة مبنية على ثورة الكوانتم (المعنية بإطلاق ثورة DNA والثورة البيوجزئية و(تكنولوجيا النانو) وثورة الأجهزة الإلكترونية الدقيقة وإدخال ماسحات الأشعة المقطعية وغيرها) وستتزايد آفاقها التطبيقية على المديين القريب والمستقبلي.

والسؤال الذى يطرح نفسه، هل هذا الوقت المناسب لتأسيس مدرسة فكرية مصرية مختلفة على غرار التجربة السابق سردها؟ مع عدم مراعاة لأي قيود أو توجهات أو ضغوط أو ارتباط بنمط سياسي أو اقتصادي... ويكون مشروع له استقلالية عن إدارة البلد الرسمية مُمثلًا في الحكومة المُثقلة بأعبائها، وهذا ليس بسبب انعدام الثقة كمتغير حيوي، ولكن لأن هذا سر الصنعة "الشغلانة دى بتتعمل كده"، ونجحت بهذه الطريقة، وفي الأخير تخلق التجربة النقطة الفاصلة وتحدد أين؟ ومتى؟ وكيف؟ تظهر حضارة جديدة، وتختفي أخرى.

وأخيرًا... يأتي السؤال النهائي والأهم -من وجهة نظري- أين فلكسنر المصري؟، وإن لم يوجد، كيف نُنتجه، أو بالأحرى كيف نفرزه كمجتمع، وليس كنخبة غير فاعلة ومؤثرة الآن؟

الخلاصة: "أن تتجه ببطء نحو الهدف أفضل من الجري بسرعة ناحية سراب".
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط