الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

انهيار الليرة التركية.. آخر محطات أزمة ممتدة بين أنقرة وواشنطن

شروخ عميقة في العلاقات
شروخ عميقة في العلاقات التركية الأمريكية

أمست العلاقات التركية الأمريكية أشبه بكرة ثلج على منحدر شديد الانزلاق، كلما تدحرجت فوقه تضخمت، ولا نقطة توقف تلوح في الأفق.

وعلى المنحدر ذاته، بدأت الليرة التركية تهوى، مخلفة وراءها مأزقًا معقدًا للاقتصاد التركي والمستثمرين وحتى المواطنين الأتراك العاديين، فبالأمس فقط هوت الليرة التركية بما يصل إلى 18%، متضررة من القلق بشأن نفوذ أردوغان على السياسة النقدية التركية والتوترات بين أنقرة وواشنطن.

ورصدت وكالة "بلومبرج" أمس صفوفًا طويلة من المواطنين الأتراك، الذين هرعوا إلى البنوك لتحويل ما بحوزتهم من مدخرات بالليرة التركية إلى عملات أجنبية، على رأسها الدولار الأمريكي، خشية تهاوي القيمة الشرائية لعملتهم المحلية، لكن البنوك التركية عجزت عن تلبية هذا الطلب الهائل والمفاجئ على العملات الأجنبية، حتى أن مواطنًا تركيًا لم يستطع شراء مبلغ صغير نسبيًا يبلغ 5 آلاف دولار.

لكن لماذا بلغت الأمور بين أنقرة وواشنطن هذا الحضيض؟ إن الأزمة الحالية بين البلدين لم تهبط من سماء صافية، وإنما هي مجرد حلقة أخيرة من سلسلة خلافات مستمرة منذ سنوات، تراكمت فوق بعضها بلا حل حاسم.

البداية في سوريا

لعل أول دفعة تلقتها كرة جليد العلاقات التركية الأمريكية كانت بسبب التباين في مواقف البلدين من الحرب السورية، فأردوغان، الذي كان يرغب في إسقاط النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، اتهم واشنطن بدعم القوى والأطراف التي يراها إرهابية، مثل وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا.

وبالمقابل، أبدت واشنطن انزعاجها إزاء اتهامات أردوغان، واتهمته بدورها بدعم الجماعات الجهادية المسلحة المناوئة للحكومة في سوريا، وخاصة جبهة النصرة (فتح الشام حاليًا)، فرع تنظيم القاعدة في سوريا

ورفضت واشنطن كل عروض تركيا بمشاركة جيشها في قتال تنظيم داعش مقابل تخلي واشنطن عن المقاتلين الأكراد، المرتبطين بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والمصنف في تركيا باعتباره تنظيمًا إرهابيًا.

الانقلاب الفاشل 

كلمة واحدة أعطت دفعة جديدة لكرة الجليد، تلك هي كلمة "انتفاضة" التي وصفت بها السفارة الأمريكية محاولة الانقلاب العسكري على أردوغان ليلة 16 يوليو 2016، قبل أن يتبين فشلها.

في تلك الليلة الحافلة أيضًا، قطعت السلطات التركية التيار الكهربي عن قاعدة إنجرليك الجوية التي كانت مقرًا لقوة عسكرية أمريكية، ارتابت أنقرة في احتمال تقديمها المساعدة للانقلابيين.

وكان مما زاد من ارتياب أنقرة مطالبة وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري غداة المحاولة الانقلابية الفاشلة بعدم اتهام بلاده بالوقوف وراءها، إذ بدت تلك المطالبة في نظر تركيا مبكرة أكثر من اللازم، وكأنها محاولة أمريكية للتنصل من أمر هي متورطة فيه بالفعل.

وبالرغم من أن كيري نفسه أعلن صراحة دعم الولايات المتحدة لتحركات أردوغان ضد الانقلاب الفاشل بعده بأربعة أيام، فإن ذلك لم يوقف الحملة الإعلامية التركية المصممة لخلق الانطباع بأن واشنطن هي الراعي الرئيسي للانقلابيين.

الإمام ورجل الأعمال

إثر الانقلاب الفاشل، عادت قضية الداعية التركي المقيم بالولايات المتحدة فتح الله جولن لتطفو على السطح مجددًا، فواشنطن كانت ترفض منذ عام 2013 تسليم رجل الدين التركي لبلاده، التي اتهمته مرارًا بمحاولة قلب نظام الحكم عبر تغلغل العناصر الموالية لحركته "الخدمة" في مفاصل المؤسسات التركية حتى المستويات القيادية منها، في الجيش والإعلام والقضاء، وتكرر تركيا من حين لآخر تأكيدها أنها سلمت واشنطن كل الوثائق التي تؤكد ضلوع جولن بمحاولة انقلاب 2016 الفاشل وأن على واشنطن السير قدما بتسليمه بأقرب وقت ممكن.

وبحسب شبكة "بي بي سي"، بدأت الأزمة بين الحليفين القديمين أردوغان وجولن عام 2013 عندما أصدرت السلطات التركية مذكرات اعتقال بحق ثلاثة من الوزراء في حكومة أردوغان إضافة الى ابنه بلال بتهمة تلقي رشى بملايين الدولارات.

واتهمت الحكومة التركية العناصر الموالية لجولن في مؤسسات الدولة بالوقوف وراء فتح هذا التحقيق، قبل أن تغلقه وتباشر بحملة واسعة شملت طرد وفصل وسجن كل من له علاقة بالتحقيق في هذه القضية من رجال شرطة وقضاة موظفين وقالت أن هذا الأمر ليس سوى محاولة انقلاب على الحكومة من قبل جولن.

وهنا برز اسم رجل أعمال إيراني يحمل الجنسية التركية يُدعى رضا ضراب، وهو الرجل الذي اتهمته التحقيقات التركية (قبل أن تغلقها الحكومة) بدفع رشى لوزراء أردوغان مقابل التعامل مع إيران وانتهاك العقوبات الأمريكية ضدها.

وألقت السلطات الأمريكية القبض على ضراب عند دخوله أراضيها في مارس 2016، بتهم غسيل الأموال وانتهاك العقوبات الأمريكية ضد إيران، كما اتهم القضاء الأمريكي وزير الاقتصاد التركي السابق ظافر تشاجليان بالأمر ذاته، وأثار الاتهام ردا غاضبا في تركيا إذ وصف أردوغان الاتهام بأنه "خطوة ضد الجمهورية التركية".

القس الأمريكي رهينة أردوغان

إزاء الرفض الأمريكي لتسليم فتح الله جولن إلى أنقرة، لجأت الأخيرة في ديسمبر 2016 إلى اعتقال قس أمريكي يُدعى أندرو برونسون، يقيم في تركيا منذ 23 عامًا، ويرعى كنيسة إنجيلية صغيرة هناك يبلغ عدد أتباعها 25 شخصًا فقط. 

ووجهت السلطات التركية إلى برونسون تهما بالارتباط بحزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله جولن، الذين تعتبرهما تركيا منظمتين إرهابيتين وهو ما ينفيه محامو برونسون والولايات المتحدة بشكل قاطع.

وتحول القس إلى ورقة ضغط بيد تركيا ضد واشنطن، حيث صرح أردوغان أن مصير برونسون مرتبط بتسليم واشنطن جولن لتركيا، وقال موجها كلامه للحكومة الأمريكية "لدينا إمام هنا أيضا، أعطونا الذي عندكم وسنعيد لكم إمامكم".

وكانت قضية برونسون بالتحديد هي التي فجرت سلسلة التداعيات التي فتحت الهاوية من تحت أقدام الليرة التركية، فقد هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تركيا بمواجهة عقوبات كبيرة ما لم تطلق فورًا سراح برونسون، الذي خرج في أواخر يوليو الماضي من السجن إلى الإقامة الجبرية.

وفي وقت سابق لوح نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس تهديد مماثل وجهه مباشرة إلى الرئيس التركي، وقال بنس في مقابلة تلفزيونية "إذا لم تطلق تركيا سراح القس برونسون وترسله إلى بلاده ستفرض الولايات المتحدة عقوبات كبيرة عليها إلى أن يتحقق ذلك".

الصواريخ الروسية

رافد آخر من روافد الأزمة التركية الأمريكية هو اتفاق أنقرة مع موسكو لشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة إس 400، وهو ما أثار مخاوف الولايات المتحدة بشأن المخاطر المحتملة على طائرات حلف الناتو، بل وأعلنت بوضوح قلقها إزاء استخدام حلفائها في حلف الناتو أنواعًا جديدة من الأسلحة التي تحصل عليها من الدول غير الأعضاء في الحلف.

وكانت أنقرة قد وقعت الصفقة مع موسكو في ديسمبر 2017، في ختام مسيرة طويلة لترميم علاقات البلدين، التي تضررت إثر إسقاط الجيش التركي لطائرة حربية روسية في العام 2015، زعمت تركيا أنها اخترقت حدودها قادمة من سوريا.

وإزاء ذلك، جمدت الولايات المتحدة تسليم تركيا صفقة مقاتلات حديثة من طراز إف 35، وسط جهود حثيثة في الكونجرس لإصدار تشريع يمنع بيع الطائرات إلى تركيا بسبب خططها لشراء المنظومة الروسية.

وقال مساعد وزير الخارجية الأمريكي ويس ميتشل خلال إفادة أمام مجلس الشيوخ الشهر الماضي إن أنقرة إذا اشترت المنظومة الروسية فستخضع لعقوبات بموجب مشروع قانون وقعه الرئيس دونالد ترامب الصيف الماضي.