الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مسافر ليل .. ضحية الراوي الصامت


أن تذهب إلى قاعة مسرح لتشاهد عرضا فنيا ثت تجذبك أحداثه منذ البداية وحتى إسدال الستار فهو شيء طبيعى ومألوف .. أما أن تشعر بالفضول والرغبة العارمة فى المشاهدة قبل ذهابك إلى المكان، فهذا هو الأمر المثير بالفعل ويبعث على الإعجاب ويحث المرء على النزول والتوجه سريعا إلى موقع التجربة.. وانتابتني هذه الحالة فور دعوتى من صديقى الفنان الواعى جهاد أبو العينين لحضور عرض "مسافر ليل" وعلمت أن المتفرج سيحل راكبا داخل قطار فى ساحة مركز الهناجر للفنون، حيث تدور قصة العمل بين مقاعده خلال رحلة لن تتجاوز ٥٠ دقيقة!.

اختلاف التجربة هو أهم وأبرز عوامل النجاح ومكونات الخلطة الإبداعية داخل المطبخ المسرحى، ولابد أن نتوقف كثيرا عند محطة المخرج الموهوب محمود فؤاد صدقى لما صنعه من أجواء الليل بإضاءته الموحية مطعمة بتيمات موسيقية حساسة وتنويعات بصرية ذكية تستغل الحيز الضيق للمكان وتخلق من الصراع داخل الحدث الدرامى حالة إنسانية تحمل إسقاطات سياسية شديدة القسوة .. وعندما تتصاعد نبرة السلطة فى وجه الطرف الأضعف من مشهد لآخر تتجلي براعة الرؤية الإخراجية فى مناطق تغيير الملابس وتبديل سُترات الطغيان المتعددة، وتوظيف الحركة المسرحية لخدمة اللحظة المتوهجة بالتسلط والظلم وصولا إلى نهاية الرحلة بإزهاق الروح وقتل البراءة .. وطوال الطريق يسير المخرج بنا على قضبان الحياة مستشهدا بـ ٣ أبطال يلخصون فلسفة الشاعر العظيم صلاح عبد الصبور فى واحد من أكثر نصوصه المسرحية قوة وعمقا وبلاغة لُغوية .. واستعان المخرج الشاب بـ "مثلث الدهشة" على مستوى الأداء التمثيلى عندما أسند دور الطاغية المتخفى فى ثوب موظف التذاكر لعلاء قوقة فامتلك مفاتيح الشخصية بتلوناتها المختلفة وشكّل انفعالاتها في سلاسة وتمكن وحس تعبيرى على أعلي درجة من الاحترافية والمهارة .. وارتدى جهاد أبو العينين نظارة "الراوى" وحمل كتابه ليعلق على ما يحدث فى "عربة الموت" واتسم أداؤه بالطاقة الفنية المبدعة ممتزجة بكوميديا خفيفة كامن بين السطور لايتقنها إلا ممثل فاهم ودارس لكل حرف ينطقه فضلا عن تفوقه فى أن يجعلنا نستمتع بجمال اللغة وعظمة كلمات عبد الصبور "المؤلمة" .. ولمع أيضا مصطفى حمزة فى تجسيد الإنسان المقهور وارتبطت انفعالاته وتكوينه الجسمانى بمشاعر المقاومة للسلطة الغاشمة حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت أعين "الرواى الصامت" الذى فضَّل عند وقوع الجريمة أن يتوقف عن التعليق، بل ويطالب الحاضرين من الركاب بالتزام أماكنهم والاكتفاء بالمشاهدة .. أو الفُرجة .. اقتناعا بصعوبة تغيير هذا الواقع أو .. الثورة عليه!.

- .. وغادرتُ القطار مع بقية الركاب وقلبى يسير فى دربين .. الأول يشجعنى على التصفيق لفريق العرض لجمال تجربتهم ونضج المعالجة المسرحية لنص مُثقَل بالمعانى والرسائل العميقة .. والثانى يدفعنى إلى التفكير فى اليوم الذى نتخلص فيه من "طاعون" الصمت السلبى بعد أن اجتاح عالمنا ويدفع ثمنه الأبرياء .. وتبقى مثل هذه الزهور المسرحية فى بستان الإبداع الفنى والثقافى جرس الإنذار لتغيير المسار ورفض الطغيان ومواجهة الخيانة والقهر، لتحصل دائما على "تذكرة الحياة"!.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط