الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب : جنون

الكاتب الصحفي رضا
الكاتب الصحفي رضا نايل

كان يقطع الغرفة ذهابًا وعودة وهو يرتشف جرعات صغيرة من فنجال القهوة الذي أعدته ابنته، ويشعر أن جُرحه الذي تكفلت بمُداواته السنون قد ترك ندبات غير مرئية داخله تصب في روحه مادة كاوية، ولن تتوقف طالما كان عاجزًا عن النسيان، والغريب أن ذلك كان يُشعره براحة لذيذة وسط الآلام، فكان كمَنْ يرى نقطة ضوء بعيدة وسط الظلام، فيملؤه حنين رقيق لعمره الذي تركه وراء الأيام، وأعاده سؤال ابنته على مائدة العشاء:

- بابا أنت تعرف الأستاذة سمر فؤاد؟! 

هكذا سألته، وهي تميل بخفة رأسها جهة اليمين وتغمز بعينها اليسرى، ووجهها تكسوه بسمة صافية بريئة. 

بدا وكأنه يحاول تذكر شيء لم يَنسَه قط، ثم أجاب سؤالها بسؤال قائلًا في لامبالاة:

- وأين تعرّفتِ عليها؟

قالت وهي تمضغ ما بفمها من طعام بسرعة ثم تبتلعه وتأخذ شهيقًا: 

- مُدرِّسَة علم النفس. 

توقف عن تناول الطعام، ونظر نحو زوجته، وقال وهو يحاول إخفاء ما اعتراه من اضطراب وراء فتور زائف: 
- كانت زميلتي في الثانوي.

تحوّل جسد زوجته كله لأُذن صاغية حتى تلقت إجابته، وفكرت لأقل من دقيقة وهي تحدق في الطعام، وقالت بمكر وسخرية: 

- آه زميلته في ثانوي..

ثم أشارت إلى ابنتهما، وأكملت:

- لذلك مَنحَكِ اسمها. 

أثارت ملاحظة الأم القوية السريعة زوبعة من الأفكار داخل الابنة، فأخذت تسترجع تلك الدقائق التي مازالت طازجة في مُخيلتها حين سألتها المُدرسة عن اسمها، فتحوّل وجه سمر الكبيرة الصافي الهادئ فجأة إلى سماء الخريف المتقلبة، فغاب ضوءه وراء سحب قاتمة لا تمطر، وتحول لونه الأبيض كالثلج إلى لون الأقحوان، وتوهج في عينيها السوداوين الواسعتين ضوء براق لنجم لا يسطع إلا كل مائة عام، ثم راوغت وراحت تنظر نحو زميلاتها في الفصل وهي تتأملها بأطراف بصرها، لتخفي دهشتها الممزوجة بسعادة غمرت روحها العطشى إليه عند سماع ابنته تذكر اسمها مقترنا باسمه، فأغمضت عينيها ووضعت يدها على صدرها لتتأكد أن قلبها الذي عاد ينبض من جديد بدقات قديمة قد نسيت تمامًا إيقاعها مازال مكانه لم يطر من هذا الفرح الطارئ، ثم قالت بصوت بارد في ظاهره، مملوء بتباريح الشوق في باطنه:

- سلِّمي على بابا.

أما هو فقد ألقت ملاحظة زوجته حجرًا بحجم جبل في بركة أيامه الراكدة، فصنعت دوائر متتابعة مركزها مائدة الطعام، ولكنها آخذة في الاتساع إلى مدى لا يعلمه إلا الله.

فأغمض عينيه، وأخذ نفسًا عميقًا وكأنما يستعد لإلقاء نفسه في بحر وهو لا يجيد السباحة، وقال بهدوء وعيناه معلقتان بابنته:

- إنها حكاية من الماضي. 

قالت زوجته في تحدٍ، والغيظ منح صوتها قوة لم تتوقعها: 

- ولكنك أردت أن تستمر معك في الحاضر والمستقبل. 

تناول شربة ماء ليبتلع بها تلك الكلمات حتى سيظل محافظا على هدوئه أمام ابنته، وقال بحُب مصطنع:

- الحاضر والمستقبل لك وحدك.. أما الماضي فهو يخصني وحدي.

- ولكن ماضيك يُلاحقني أنا وابنتك.

- تتحدثين وكأني كنت مجرمًا.

- ليس هناك جريمة أكبر من أن يرتبط رجل بامرأة بينما قلبه مسكون بامرأة أخرى.

حاول أن يرسم ابتسامة على وجهه، قائلًا وقد فقد بعضًا من هدوئه:

- ولكنها أخلت السُكنى منذ التقينا.

قالت في حزن وحسرة وهي تشير إلى ابنتها:

- لا..

فقد ما تبقى لديه من هدوء، وأشعل الغضب وجهه إحمرارًا، وقال بعصبية وهو يضرب المائدة بكل ما أوتي من قوة حتى وقعت أكواب المياه وبعض الأطباق وتحطمت على الأرض:

- هذا جنون.

دلفت الابنة مسرعة إلى المطبخ لتعد له فنجال قهوة. 

وأصدرت الأم ضحكة صامتة طويلة، تحوّلت رويدا إلى ابتسامة ساخرة، وقالت بصوت تخنقه الدموع التي تُبلل عينيها وهي تجاهد لتمنعها من السقوط على وجنتيها:

- ومن فينا المجنون؟!

رضا نايل
مُهداة إلى صديق