الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المافيا الإيطالية.. قصة إمبراطورية تأسست بالدم والرصاص

صدى البلد

"المافيا".. كلمة لطالما ارتبطت في أذهان الناس بأفلام العصابات والجريمة، التي لا تزال السينما الأمريكية تصنعها حتى الآن، والتي كان أشهرها رائعة "العراب" للعبقري الراحل "مارلن براندو"، وهي الكلمة التي أصبحت بمرور الوقت بمثابة "أسطورة" في الأدب الغربي والأمريكي الحديث. 

تعتبر المافيا الإيطالية أول عصابة إجرامية منظمة في التاريخ الحديث، وهي تمارس الحماية بالابتزاز واستخدام الترهيب العنيف للتلاعب بالنشاط الاقتصادي المحلي، خاصة الاتجار غير المشروع، فضلًا عن الاتجار بالمخدرات والربا بفوائد مرتفعة والتزوير، ولديها أيضًا ميثاق شرف، ومهّدت لصدور المافيات الروسية واليابانية واللاتينية والمكسيكية واليونانية والصربية.

وعلى مدار الأيام القليلة الماضية، شنّت سلطات ألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا حملة مُداهمات موسعة ضد أعضاء بمنظمة "ندرانجيتا" التي تعتبر أقوى "مافيا" إيطالية في الوقت الراهن حيث تسيطر على تهريب المخدرات إلى أوروبا، ولها نشاط واسع في ألمانيا، ويعتقد أنها تقف وراء عمليات الاغتيال التي شهدتها مدينة ديوزبورج الألمانية عام 2007.

أسفرت الحملة عن اعتقال عشرات من أفراد المنظمة بعد مُداهمة أكثر من 200 موقع في البلدان الأوروبية، في حين أعلنت السلطات الإيطالية عن سيتيمو مينيو، زعيم فرع المافيا في جزيرة صقلية والتي تعرف باسم "كوزا نوسترا". 

أصل المافيا
رغم أن المؤرخين واجهوا صعوبات شديدة في التأريخ للمافيا بشكل أكاديمي، نظرًا لأن تلك العصابات تعمل في الظلام ولا يستطيع أحد أن يعرف عنها شيئًا إلا كان أحد أفرادها.. فإن البعض خرج بنظريات عن أصل المافيا أشهرها هو أن كلمة "مافيا" جاءت أصلًا من كلمة "مهياص" العربية، والتي تعني "منبوذ" أو "مرفوض"، وقد تحرّفت للإيطالية لتصبح "mafiusu"، عندما كانت جزيرة صقلية تخضع لسيادة الدولة الفاطمية، وسرعان ما ظهرت الكلمة مُجددًا على شكل مصطلح في القرن الـ19 ليدل على فحولة وقوة الرجل، وهي تعادل مصطلح "فتوة" في اللغة العربية.

المصطلح بدأ الانتشار بقوة في صقلية بعد اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861، وانضمام بعض سكان الجزيرة إلى الحرب بعد ما جاءوا للعيش في الولايات المتحدة، حينها أصبحت الكلمة تطلق على كل إيطالي صقلي، وبعد انتهاء الحرب عاد بعضهم إلى موطنهم وعانوا من بطالة شديدة ليشكّلوا بعدها نقابة عمالية، تفرّقت إلى نقابات كثيرة جدًا بمرور الوقت ثم سرعان ما اتجهت إلى الأعمال غير الشرعية في منطقة بالرمو وما حولها من مزارع الليمون والبرتقال. 

أصبحت كل نقابة بمثابة عائلة أو "عصابة" لأفرادها؛ تسيطر كل منها على منطقة بعينها في الجزيرة، وبحلول عام 1900، تحوّلت تلك النقابات إلى أكثر كيان اقتصادي وسياسي واجتماعي مسيطر في غرب الجزيرة ووصل عدد أعضائها جميعًا حوالي 860 شخصًا.. حينها أطلقوا على أنفسهم اسم "لا كوزا نوسترا" وهي كلمة تعني "الغاية التي تجمعنا". 

تطوّرت جمعية سرية أخرى تدعى "كامورا" في سجون نابولي بإيطاليا، وانتشر نفوذها في بداية القرن التاسع عشر في المدينة والمناطق الريفية المجاورة واكتسبت منظمة إجرامية أخرى هي "أونوراتا سوسيتا" نفوذًا في إقليم كالابريا الإيطالي حوالي عام 1900، وخلال الحقبة الفاشية شن موسوليني حربًا شعواء على جميع تلك المنظمات وزج بالكثير داخل السجون لمجرد الاشتباه في انتمائهم لها، ما جعل الكثير منهم يهربون إلى الولايات المتحدة، ولم تعود المافيا إلى قوتها إلا بعد استسلام إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.

المافيا الأمريكية 
لا تقارن المافيا الإيطالية بنظيرتها الأمريكية، إذ إن الأخيرة كان لها الفضل الأول والأخير في ظهور مصطلح الجريمة المنظمة وتأسيس هيكل تنظيمي للعصابات الإيطالية التي كانت تعيش في المدن والولايات الأمريكية، خاصة نيويورك، وهي العصابات التي خرجت من رحم الجاليات الإيطالية التي هاجرت من صقلية بالتحديد إلى الأراضي الأمريكية في مطلع القرن العشرين. 

وكثيرًا ما يظن البعض أن المجرم الشهير "آل كابون" هو الأب الروحي للمافيا الإيطالية، إلا أن هذا الأمر ليس صحيحًا؛ إذ إن العصابات الإيطالية كانت تعيش في فوضى تنظيمية شديدة منذ أواخر القرن الـ19 حينما ظهرت عصابة إيطالية عُرفت باسم "اليد السوداء" التي تزعمها "بول كيلي"، والذي أسس بعدها عصابة "الخمس نقاط" والتي أصبحت شديدة النفوذ حتى فترة تحريم الخمور والمواد الكحولية في عشرينيات القرن المنصرم. 

وخلال تلك الفترة دخلت العصابات الإيطالية حروبًا ضد بعضها اشتهرت عند المؤرخين باسم "حروب كاستيلامازري"، وأسفرت في نهاية المطاف عن ظهور الأب الروحي الحقيقي للمافيا سواء في الولايات المتحدة أو إيطاليا، وهو "لاكي لوتشيانو" الذي أسس الهيكل التنظيمي لفكرة العصابة بحيث يوجد تسلسل هرمي داخل العائلة الواحدة ورتب تشبه الرتب العسكرية، فلا يجوز لشخص ذي مرتبة متدنية أن يعصي أوامر فرد في عائلته أعلى منه منزلة أو رتبة مهما كانت تلك الأوامر.

وكان "لوتشيانو" أول من حول الطقوس الدينية التي كانت تنفذها عصابات صقلية قديمًا للأشخاص الذين يجندوهم، إلى تقليد مقدس، أن يقتضي بإسالة بضع قطرات من أصبع العضو الجديد فوق صورة في الكنيسة ثم إحراق الصورة بالدماء وهو ممسك بها بيديه المجردتين حتى تتحول الصورة إلى رماد تعبيرًا عن الولاء والطاعة وعدم الخيانة .

كما أعاد "لوتشيانو" تقسيم جميع العصابات التي تسيطر على ولاية نيويورك إلى خمس عائلات رئيسية ترأس هو أحدهما بينما ترأس أصدقائه باقي العائلات الأربع وهم "كارلو جامبينو" و"جوزيف كولومبو" و"جو بونانو" و"تومي لوكهيزي"، في حين حصل نفس الشيء في الولايات الأخرى مثل شيكاجو، التي ترأس المافيا الخاصة بها "آل كابون"، وفيلادلفيا ونيوجيرسي وبيتسبرج وفلوريدا. 

لا تزال العائلات الخمس تسيطر على نيويورك حتى اليوم وتقترب أرباحها في الوقت الراهن من ميزانيات الكثير من دول العالم، غير أن الجرائم المنظمة تغيرت طبيعتها في الفترة الأخيرة واتخذت شكلًا في غاية الدقة والتعقيد بسبب تعقيد النشاط الاقتصادي في العالم بشكل عام.

أصبح تأثير المافيا في الوقت الراهن قويًا للغاية على الساحة السياسية والاقتصادية العالمية والإيطالية خاصة بشكل يقلق الساسة والشعوب على حد سواء. وينتظم حوالي 6 آلاف إيطالي أمريكي يشاركون في الجريمة المنظمة في شبكة عصابات إقليمية تسمى العائلات وتشارك هذه المنظمات في العديد من النشاطات غير القانونية مثل المقامرة، والدعارة، وبيع المخدرات، والربا.