قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. ثروت إمبابي يكتب: من التحكم في المناخ إلى تحقيق الاستدامة.. دور الزراعة المحمية في رؤية مصر 2030

د. ثروت إمبابي
د. ثروت إمبابي

تُعَدّ الزراعة المحمية أحد أهم الابتكارات الزراعية الحديثة التي تهدف إلى مواجهة التحديات البيئية والاقتصادية المرتبطة بالإنتاج الزراعي في المناطق الجافة وشبه الجافة. 

فمع التزايد المطّرد في عدد السكان وما يصاحبه من ارتفاع في الطلب على الغذاء، ومع محدودية الموارد الطبيعية وعلى رأسها المياه والأراضي الصالحة للزراعة، أصبح من الضروري البحث عن نظم إنتاجية قادرة على تعظيم الاستفادة من كل وحدة من الموارد المتاحة. وتُظهر الدراسات العلمية أن إنتاجية وحدة المساحة داخل الصوب الزراعية تفوق نظيرتها في الحقول المكشوفة عدة مرات، كما أن استهلاك المياه ينخفض بصورة ملحوظة بفضل تطبيق تقنيات الري الدقيق وإعادة تدوير المحاليل الغذائية. كذلك فإن التحكم في العوامل البيئية مثل الحرارة والرطوبة والإضاءة يتيح إنتاج محاصيل عالية الجودة على مدار العام، مع تقليل معدلات الفاقد والحد من استخدام المبيدات، وهو ما ينسجم مع مبادئ الاستدامة الزراعية والأمن الغذائي.

ومن هذا المنطلق، تبرز الزراعة المحمية كأحد الحلول الذكية التي لا تنحصر في إنتاج غذاء أكثر جودة فحسب، بل تمتد لتكون أداة عملية لتحقيق الاستدامة وتقليل استهلاك الموارد. فهي في جوهرها ليست مجرد بيوت بلاستيكية أو أنفاق زجاجية تحيط بالنبات، بل فلسفة متكاملة تقوم على التحكم في المناخ والظروف البيئية بما يضمن إنتاجًا وفيرًا بمعدل أقل من المياه والأسمدة والطاقة، وبأثر بيئي أهون على الأجيال القادمة.

 ولعل قيمتها الكبرى أنها تمنح القدرة على مضاعفة الإنتاج في وحدة المساحة، وتتيح زراعة محاصيل على مدار العام بعيدًا عن تقلبات الفصول التي كانت تشكل عائقًا أمام استقرار السوق. كما أن التحكم في درجات الحرارة والرطوبة والتهوية يساهم في تقليل الفاقد والحد من انتشار الآفات، وهو ما يقلل الاعتماد على المبيدات الكيماوية ويرفع من جودة المنتج وصلاحيته للتصدير، الأمر الذي يعزز تنافسية مصر في الأسواق العالمية. والأهم أنها تمنحنا مرونة في مواجهة تغيرات المناخ التي باتت تهدد الزراعة المكشوفة بشكل مباشر، فهي أشبه بمظلة أمان غذائي واقتصادي.

وبرأيي الشخصي، فإن الزراعة المحمية في مصر يجب أن تُعامل باعتبارها بنية تحتية قومية لا تقل أهمية عن الطرق والكهرباء، فهي ليست رفاهية بل ضرورة استراتيجية للأمن الغذائي. إن ما يميزها حقًا ليس مجرد مضاعفة الإنتاجية، وإنما القدرة على التنبؤ والاستقرار، حيث تتيح للمزارع والمستهلك والدولة أن يتحركوا في إطار من اليقين بدلًا من المفاجآت التي أثقلت كاهل الأسواق. ومن هنا أرى أن نجاح هذا القطاع يتوقف على دمجه بالتكنولوجيا الرقمية وأنظمة البيانات التي تضبط الري والتسميد بدقة، لأن الإدارة بالعلم والرقمنة هي وحدها الكفيلة بتحويل الصوبة من مجرد هيكل مغطى إلى مصنع إنتاج غذائي مستدام.

وإذا تأملنا دور الدولة في هذا المجال، نجد أن رؤية مصر 2030 قد وضعت أهدافًا واضحة لتعزيز الأمن الغذائي وترشيد الموارد المائية والتحول نحو الاقتصاد الأخضر، والزراعة المحمية تتقاطع مع هذه الأهداف في نقاط عديدة. فالدولة تستطيع أن تدعم هذا القطاع عبر توفير حوافز تمويلية ميسرة، وتبني برامج تدريب متخصصة لإعداد كوادر قادرة على إدارة الصوب الحديثة، إلى جانب وضع معايير جودة وطنية تضمن سلامة المنتج وفتح أسواق جديدة للتصدير. كما أن تشجيع استخدام المياه المعالجة والطاقة المتجددة داخل هذه المشروعات سيكون ركيزة لتحقيق الاستدامة وتقليل التكلفة في الوقت ذاته.

أما القطاع الخاص فهو شريك أساسي في هذه المنظومة، إذ يمتلك المرونة في الاستثمار والتوسع والقدرة على ابتكار حلول تمويلية تتيح لصغار المزارعين الدخول في عالم الزراعة المحمية دون أعباء مالية كبيرة. ويمكن للشركات أن تدير مجمعات متكاملة للصوب تشمل المشاتل، والتعبئة، والتبريد، والتسويق التعاقدي، وهو ما يعزز من استقرار العائد ويحمي المزارع من تقلبات السوق. ومن خلال هذه الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص، تتحول الزراعة المحمية من مشروعات متفرقة إلى صناعة متكاملة تسهم بفاعلية في تحقيق التنمية الزراعية الشاملة.

ولأن الطموح هو وقود التنمية، فإن مصر قادرة على أن تجعل من الزراعة المحمية أحد أعمدة استراتيجيتها لتحقيق الأمن الغذائي وتصدير الفائض للأسواق الخارجية. وإذا كنا نسعى جاهدين لبناء جمهورية جديدة قوامها الاستدامة والابتكار، فإن الاستثمار في هذه التكنولوجيا الزراعية هو استثمار في المستقبل ذاته. ومن وجهة نظري، فإن المضي قدمًا في هذا الاتجاه سيجعلنا لا نزرع فقط نباتات في صوب محكمة، بل نزرع أيضًا الثقة في قدرة مصر على مواجهة تحديات الغذاء والمناخ والموارد بكفاءة وندية. وفي النهاية، يمكن القول إن الزراعة المحمية ليست مجرد تقنية حديثة، بل هي لغة المستقبل التي تُترجم طموحاتنا في الأمن الغذائي إلى واقع ملموس. فإذا كان الحقل المكشوف يزرع لنا ما تسمح به الطبيعة، فإن الصوبة تزرع لنا ما نخطط له بعقولنا وإرادتنا. 

وهكذا نصنع من كل قطرة ماء حكاية عطاء، ومن كل متر أرض فرصة حياة، لتبقى مصر دائمًا قادرة على مواجهة التحديات بوعي وعلم وابتكار.