أدركت إسرائيل منذ تأسيسها أن السيطرة العسكرية وحدها لا تكفي لضمان بقائها وأن المعركة الحقيقية لا تُخاض فقط على أرض الواقع، بل في عقول وقلوب الناس. لهذا، استثمرت بشكل ضخم في صناعة خطاب إعلامي ودعائي قادر على تشكيل صورة ذهنية مُحددة عن نفسها وعن أعدائها وبالأخص العالم العربي والفلسطينيين.
فتعتمد إسرائيل في هذه الحرب النفسية على أدوات متشابكة منها الإعلام التقليدي، المنصات الرقمية، الإنتاج السينمائي وحتى المناهج الدراسية. كل ذلك لخدمة هدف واحد وهو إعادة رسم الواقع في أذهان الناس في روايتها بأنها هي الدولة الصغيرة الديمقراطية المحاطة بـ"أعداء متوحشين"، وهي الضحية الدائمة التي لا تملك إلا الدفاع عن نفسها. أما الفلسطيني، فغالبًا ما يُقدَّم في خطابها على أنه "إرهابي بالفطرة"، أو كائن خارج عن القانون، أو خطر يهدد السلام العالمي.
ونجد أنه في الداخل الإسرائيلي تُبنى الأجيال على خطاب وطني متشدد تُزرع فيه صورة العربي كتهديد وجودي. ويساهم في ذلك الإعلام العبري الموجه للمجتمع الإسرائيلي حيث يمارس تكرارًا مستمرًا لصورة العربي "العدائي"، مما يخلق خوفًا مرضيًا ويجعل أي حل سياسي يبدو كخيانة أو تهديد للأمن.
على الصعيد الدولي تُتقن إسرائيل لعبة العلاقات العامة فتقوم بتوظيف شركات ضغط (لوبيات) قوية وتستثمر في شخصيات سياسية وإعلامية لتسويق روايتها، وتستغل لحظات الصراع الكبرى لتقديم نفسها كضحية بينما تمارس على الأرض سياسات القمع والإستيطان حتى في الأفلام والمسلسلات العالمية نجد تسلّلًا لصورتها التي تربط بين العربي والإرهاب وتربط بين الإسرائيلي والتحضر والتقدم العلمي.
ومع صعود وسائل التواصل الإجتماعي وجدت إسرائيل ساحة مثالية لنشر دعايتها بشكل أسرع وأوسع منها فرق إلكترونية مدربة، ومؤثرون يتحدثون بلغات متعددة، ومنصات تبث رسائل مُعلبة تستهدف وعي الأجيال الشابة حول العالم. وهكذا، يتحول التضليل إلى مادة يومية تستهلكها ملايين العقول دون وعي.
وخلال الأسابيع الماضية صدرت عن مسؤولين إسرائيليين تصريحات تحمل اتهامات حادة لمصر كان أبرزها من السفير الإسرائيلي في واشنطن الذي زعم أن القاهرة "تلعب على الجانبين" وتستغل مأساة غزة لتحقيق مكاسب سياسية. هذه التصريحات التي جاءت في توقيت حساس استهدفت الإضرار بسمعة مصر كوسيط محايد وفاعل أساسي في الجهود الإنسانية.
كما أن إسرائيل تعتمد في هذا الخطاب على إعادة تكرار رسائلها عبر منابر إعلامية غربية مؤثرة لضمان وصولها إلى صناع القرار والرأي العام الدولي في محاولة لإثارة الشكوك حول مصداقية الموقف المصري.
حيث يشكل معبر رفح الرابط الإنساني الأهم بين غزة والعالم الخارجي وهو المنفذ الذي تمر من خلاله المساعدات والإمدادات الأساسية. ومنذ أن أحكمت إسرائيل سيطرتها العسكرية على المعبر انخفضت أعداد الشاحنات التي تدخل القطاع بشكل كبير وهو ما تسبب في تفاقم الأزمة الإنسانية.
بدلًا من الإعتراف بمسؤوليتها المباشرة عن هذا التدهور حاولت إسرائيل توجيه أصابع الإتهام نحو مصر لتصويرها وكأنها تعرقل دخول المساعدات وهو أمر يناقض تمامًا الحقائق الميدانية التي تثبت أن القاهرة كانت — وما زالت — تضغط دوليًا لفتح المعبر وتسهيل دخول الإمدادات.
وكان من بين أخطر أدوات التشويه ما كشفته تسريبات إعلامية عن خطط إسرائيلية تُعرف باسم "الخيار سيناء"، وفيه يقترح نقل سكان غزة إلى الأراضي المصرية. ورغم أن القاهرة رفضت هذه الفكرة علنًا وبشكل قاطع فإن مجرد تسريبها ساهم في إثارة جدل دولي، وأتاح لإسرائيل وحلفائها اللعب على وتر الشكوك وكأن مصر طرف في مخطط تهجير قسري.
هذا الأسلوب يهدف إلى خلط الأوراق وتشتيت الإنتباه عن السياسات الإسرائيلية على الأرض وتحويل الأنظار نحو مصر باعتبارها جزءًا من "مشكلة" وليست جزءًا من الحل.
ولم تقف مصر مكتوفة الأيدي أمام هذه الحملة فقد نظّمت زيارات ميدانية لمعبر رفح شارك فيها أكثر من 150 صحفيًا من نحو 85 مؤسسة إعلامية دولية حيث عرضت الحقائق على الأرض وشرحت العراقيل التي تفرضها إسرائيل على دخول المساعدات كما كثفت وزارة الخارجية المصرية تحركاتها في المحافل الدولية مؤكدة رفض القاهرة لأي محاولات للمساس بسيادتها أو تحميلها أعباء الأزمة الإنسانية في غزة.
وختاماً ، أؤكد أن الحرب الإسرائيلية على غزة لا تُخاض فقط بالسلاح، بل تُدار أيضًا على جبهات الإعلام والسياسة. وفي هذه الجبهة تحاول إسرائيل إضعاف الدور المصري وتشويه صورته لكن التاريخ والدور الفعلي لمصر في حفظ استقرار المنطقة يجعل من الصعب طمس الحقيقة.
وفي ظل استمرار الصراع تبقى معركة الصورة والرواية أحد أهم ميادين الصراع الخفي بين القاهرة وتل أبيب.
ومن هنا أؤكد أن إسرائيل لم تكتفِ باغتصاب الأرض، بل اغتصبت الحقيقة أيضًا فهي تحتل العقول قبل أن تحتل المدن وتشوّه الوعي قبل أن تدمر البيوت. وما تبثه قنواتها ومواقعها ليس إعلامًا بل ماكينة دعائية ممنهجة هدفها غسل أدمغة الداخل الإسرائيلي وتسميم عقول الخارج حتى يصبح القاتل ضحية والضحية مجرمًا.
إن أخطر ما تفعله إسرائيل هو تحويل الأكاذيب إلى حقائق متداولة وإقناع العالم بأن الإحتلال "حق مشروع" والدفاع عنه "واجب أخلاقي". وفي ظل هذا التضليل الممنهج لا يمكن مواجهة إسرائيل بالسلاح وحده بل بكشف أكاذيبها أمام العالم وفضح خطابها الذي يقطر عنصرية وزيفًا. فإسرائيل التي تدّعي الديمقراطية تمارس أعتى أشكال القمع الإعلامي وتخوض معركة وعي قذرة لا تقل إجرامًا عن جرائمها في الميدان.
حفظ الله مصر ووقاها شر الفتن، ولنا لقاء آخر على درب الحقيقة.