الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد سعيد العوضي يكتب: فحوى اللاهوت العربي وأصول العنف الديني

محمد سعيد العوضي
محمد سعيد العوضي

بين مجموعة من الأقوال التمهيدية فى المقدمة ومجموعة الأقوال الاستنتاجية فى الخاتمة، تدرّج الكاتب والفيلسوف المصري الدكتور يوسف زيدان في فصول كتابه "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" فى تحليل الرؤية الثيولوجية لأصحاب الديانات الرسالية أو الرسولية، كما وصفها فى مطلع كتابه، موضحًا تداخل الدوائر بين اليهودية والمسيحية والإسلام وكيف امتد علم اللاهوت العربي المسيحي مع علم الكلام الإسلامي، ثم أوضح فى النهاية علاقة الدين والسياسة مع بعضهما وما نتج عنهما من عنف!

وحريٌ بمن يقرأ هذا المقال أن يعلم أن ما يتضمنه الكتاب من رؤى وأفكار يصعب كتابتها فى مقال أو مجموعة مقالات، وأن كل فصل من فصوله يحتاج إلى كتاب بل أكثر لتوضيح رؤية الكاتب منه، ولكنّي سأتطرق إلى بعض النقاط المحورية التي أراد الكاتب إيصالها والتي هي محل جدل فى أيامنا الحالية.

يبدأ الكاتب بتنويه هام فى بداية الكتاب قائلا: "لم يُوضع هذا الكتاب للقارئ الكسول ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقِّي الإجابات الجاهزة عن الأسئلة المعتادة، وهو في نهاية الأمر كتابٌ، قد لا يقدّم وقد لا يؤخر"، ولعل هذا التنويه هو تحذير يزيد من الحذر المُسبَق وجوده لمجرد قراءة أو سماع أى أطروحات يقدمها يوسف زيدان على مواطني الشعب المصري أو الوطن العربي بشكل أجمع، فلطالما كانت الأعوام السابقة تشهد جدلًا كبيرًا لمجرد ذكر يوسف زيدان فى أى موضع، بل إنه يحل الجدل أينما حلّ يوسف زيدان أو ارتحل.

وفيما أورده زيدان فى الأقوال التمهيدية من كتابه هو أنه ناقش مجموعة من النقاط أهمها هو رأيه بأن ليس من الصحيح أن تُوصف اليهودية والمسيحية والإسلام بالديانات السماوية، كما لم يعتدّ العلماء الأوائل أيضًا بهذا الوصف وإنما الأصح أن نصفها بــ"الرسالية أو الرسولية" أو كما وصفها القرآن بـ"الكتابية" نسبةً إلى أهل الكتاب (التوراة والإنجيل)، ثم تناول بعد ذلك قضية شائكة تشغل بال العديد وهى علم مقارنة الأديان، ذاك العلم الذى يعتبره بعض العلماء المسلمين أن من مفاخر المسلمين ابتكارهم لعلم مقارنة الأديان، ولكن يرى الكاتب أن هذا من الزعم العلمى الوهمي، حيث إنه ليس من السهل على صاحب الدين أن يُنصف أديانًا ومذاهب لما هو مخالف له، وأن ما تم تقديمه من العلماء المسلمين أمثال ابن حزم والنوبختى ما هو إلا وصف لعقائد الفرق الإسلامية وغير الإسلامية دون التطرّق إلى مقارنة موضوعية تحليلية بين اليهودية والمسيحية والإسلام.

ثم وصف زيدان عدة مصطلحات سيتم تداولها فى فصول كتابه مثل "اللاهوت" أو "الثيولوجيا" والمقصود بها العلم الإلهى، و"الناسوت" وهو كل ما يتعلق بالإنسان، و"أرثوذوكسية" التى تدل اصطلاحًا على عقيدة الكنائس الكبرى، وفى مقابلها كلمة "الهرطقة" وغيرها من المصطلحات التى أوردها يوسف زيدان فى كتابه.

يستهل الكاتب فصول كتابه بدءًا بالتوراة، والتى تحظى من الإسلام باعترافٍ منقوصٍ باعتبارها صحيحة الأصل مُحرَّفة النص وذلك لما تشهده من التحريفات الواردة فيها من وصفهم للرب التوراتى أنه يستلذ رائحة الشواء، وتارةً يدعو للخير وتارةً يكون عنيفًا، كما أنه صارع النبي يعقوب بل واستطاع الأخير أن يغلبه! وغيرها من الصفات التى لا يقبل العاقل أن تُنسب إلى بشر فما بالك إذا كانت هذه صفات للرب التوراتى!

ثم أتت الديانة المسيحية بعد ذلك تتناول قضية الرب من الناحية الكريستولوجية لا الثيولوجية، فقد اتفقت مع اليهودية أن الله كان موجودًا مع الإنسان فى الأرض ثم رفعته ثانيةً إلى السماء حيث الموضع الذى يليق به، واستمر تناول القضية بهذا النمط بعد ذلك فى الأناجيل الأربعة التى تم اعتمادها فى مجمع نيقية الذى انعقد سنة 325 ميلادية.

ولم يكن من العجيب أن نشهد انتشار المسيحية فى مصر واليونان لما شهده تاريخ البلدين من تألٌّه الإنسان وتأنُّس الإله، وعلى عكس ذلك كان الأمر غريبًا على قاطني الجزيرة العربية والهلال الخصيب التى انتشر فيها التصور عن الآلهة أنهم مجرد أصنام وأوثان يعبدونها وبينها وبين الإنسان مسافة شاسعة.

إلى أن ظهر بعد ذلك مجموعة من المهرطقين المسيحيين فى منطقة الهلال الخصيب مثل بولس السميساطى، لقيانوس، آريوس (الهرطوقى الأعظم)، نسطور، أوطيخا وغيرهم من المهرطقين الذين كانت لهم آراء مغايرة للنظرة الكريستولوجية عند الأرثوذوكس، مما أدى بعد ذلك إلى مقتلهم.

ثم يتطرق يوسف زيدان إلى دور الإسلام الذى وضع رؤيةً حاسمةً غير جدالية مُقرًّا أن المسيح ما هو إلا بشرًا وأن الله أحدٌ صمدٌ لم يلد ولم يُولد، كما أوضح القرآن أن ما يقدّمه من سِيَر الأنبياء هو أحسن القصص عما سبقه من الحكايات التوراتية عن الأنبياء أو الروايات الإنجيلية عن السيد المسيح.

ليأتى بعد ذلك دور "علم الكلام" كما يُطلق عليه عند الفلاسفة، ويرى زيدان أنه ما هو إلا امتدادًا للاهوت العربي في المسيحية، كما أن أوائل المتحدثين فيه لم تقل قسوة نهايتهم عن نهاية المهرطقين فى المسيحية ومنهم "معبد الجهنى"، و"غيلان الدمشقي"، و"الجعد بن درهم"، و"الجهم بن صفوان"، ومن بعدهم كان المعتزلة والأشاعرة ولكنهم جاءوا بصورةٍ أكثر حذرًا لما رأوه من نهاية "المتكلمين" قبلهم فقرروا أن يتّبعوا سياسة الاختباء خلف أستار تمويهية، ويتجلى ذلك عندما قرر أئمة المعتزلة أن يجعلوا الأصل الخامس فى مذهبهم وهو "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" يمكن الاكتفاء فيه بقول اللسان دون عمل الجوارح، أى من دون الخروج على الحكام الظالمين.

وفى آخر ما قدمه زيدان من وجبته الدسمة التى يطرحها فى كتابه هو عرضه لجدلية العلاقة بين الدين والسياسة وما نتج عنهما من عنف! فهو يرى أنه لا يمكن فصل الدين عن السياسة موضحًا أطوار تلك العلاقة التى تبدأ بـ"العنف الأول"، وهو بداية انتشار رسالة الدين الجديد فتواجه "سياسة" الدولة القائمة تلك الأقلية بالعنف مما يؤدى بهم إلى "الخروج"، حتى يتنامى حجم الدين فى الأرض، ليأتى بعد ذلك طور "الاعتدال الأول" الذى يعود فيه الدين قويًا ويفشل العنف "السياسي" فى مواجهته، فيتم إرساء الدولة على طقوس وشعائر دينية تدعو للاحترام والتبجيل وتُجدّد السياسة نفسها ليصبح للمجتمع نظامًا اجتماعيًا جديدًا تصير فيه السياسة متدينةً ويصير فيه الدين سياسيًا، حتى يأتى الطور الثالث وهو "الجدل الثلاثى"، فالحركة الدينية تبدأ فى الاستناد إلى عقيدتها على نحو مخالف للقراءة السياسية المتأصلة فى المجتمع، ومن هنا يبدأ عدم الاتفاق بين التيارين وتبدأ عجلة العنف بالتسارع.

ويأتى الحل من وجهة نظر الكاتب أنه يجب استيعاب التيارين الدينى والسياسي إلى أنه لا يمكن فصل الدين عن السياسة، وأن محاولة اقتلاع كل طرف لجذور الآخر هى محاولة لا ينتج عنها إلا العنف، ومِن ثمَّ تدهور الدولة ككل وعجزها عن النمو فى مجالات الحياة العلمية والتنموية.