الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب: كيفك إنت.. (٢)

صدى البلد

حاول الرحيل ولكنه لم يستطع. بقي داخل السيارة لدقائق قبل أن يدير محركها أخيرًا. ولكن، وحتى بعد ما أدار المحرك، لم تطاوعه قدمه لضغط دواسةِ الوقود. أوقف محرك السيارة وألقى برأسِه بين يديه على المقود وأغمض عينيه.. لابد أنه يحلم. كان يشعر بالخدر يسري في جسدِه فلم يستطع التمييز بين الواقع والخيال. لطالما تخيل عودتَها، لطالما حلم بأنه رآها مرةً أخرى ولكنه كان دائمًا ما يفيق على واقع الفراقِ المؤلم. كانت أحلامه تلك منبع ألمه، وكان تكرار مشهد اللقاء في مخيلته سر عذابه الذي لم يفارقه منذ أن فارقته. ولكنه أبدًا لم يتوقف عن أحلامه رغم كل الألم الذي يشعر به عند عودته كسيرَ الروح إلى الواقع. فقد كانت تلك الأحلام الموجعة هي معينه الوحيد على قسوة واقعه بدونها.

أيقظه من أفكاره تلك صوتُ سيارةٍ مسرعة.. نظر في ساعته فوجدها التاسعة والثلث مساءًا. لابد من أنه غفا قرابة الساعتين تحت منزلها. كان شعوره أقرب للمريض في غرفة الإفاقة: يختلط لديه الواقع بالخيال فيصيبه الهذيان. جال بنظره حوله فلم يجد سوى الصمت المطبق. كان الحي الذي تسكنه هادئًا وبعيدًا عن الضوضاء. نظر إلى نافذة غرفتها فوجد الستائر مغلقة.. والظلام حالك. بقى يرقب متأهبًا علَّه يلمح حركةً قد تكسر صمتًا غلّف قلبه لسنوات، أو ضوءًا قد يخترق بسهمه هذا الظلام الذي سجى عالمه وكيانه يوم أن رحلت.. ولكن بلا جدوى. تولد لديه يقين أنه وقع مجددًا فريسة لأحلام يقظته تفتك به ليفيق منها خاويَ الوفاض. وقبل أن تترقرق دمعةٌ ساخنةٌ دائمًا ما ترتعش في عينيه في أعقاب كل إفاقة، أدار مفتاح سيارته وضغط دواسة الوقود والتفت وراءه ليعود بالسيارة إلى الخلف؛ فإذا به يجد نظارتها الشمسية على الأريكة الخلفية.

لم تتمكن من النوم بعد. كان لرؤيته وقعٌ شديدُ الأثرِ على نفسها. استعادت تفاصيل لقائهما المرة تلو الأخرى وكانت تتوقف في كل مرة عند لحظتين: لحظة أن باغتها من خلفِها وأمسك بحقيبتها عنها فكادت أن يُغشى عليها، ولحظة وداعه عند باب المنزل، حين تصارع بداخلها شعوران على نفس القدر من القوة: رغبةٌ محمومة في إيقاف الزمن حتى لا تفلت يده، واعتزاز مفرط بنفسها وكرامتها دفعها في النهاية إلى شكره بابتسامة رصينة محسوبة، ثم غلق باب المنزل ومزاليجه ما أن ولى خارجًا. لم تعلم حقا لماذا سارعت إلى غلق المزاليج فور انصرافه: أفي هذا رسالةً له بأن يبقى خارج حدود عالمها -والذي جاهدت طوال الثلاث سنوات الماضية التي تلت انفصالها في إبقائه حكرًا عليها وعلى ولدها؟- أم أنه بالعكس رسالةً لها هي، لمشاعرها المضطربة والمتضاربة، لعواطفها التي تأججت من جديد ما أن رأته، ليديها التي ذابت في دفء لمسته، وعينيها التي كانت تسترق النظرات من وراء نظارتها الشمسية لتعانق من خلف ستارها عينيه؟

شعرت بدوار يكاد يلقي بها أرضا فتركت نفسها تهوى جالسة في مكانها. كانت لا تزال تستند إلى باب شقتها، فتركت جسدها ينزلق بكامل قوته ثم ضمت ركبتيها إلى صدرها واستندت إلى ذراعيها اللذين عقدتهما فوق ركبتيها. كانت الأفكار تتنازعها بقوة، ولكنها ما لبثت أن انسحبت وولت الأدبار لتفسح المجال لذكرى يوم فراقهما، تلك الذكرى التي انقضَّت تنهش عقلها وكيانها كالجني الذي ظل قابعا في ظلمات المصباح ينتظر إطلاق سراحه.. وها هو القدر يسوقه إليها سوقا لتراه بعد كل تلك السنوات فيكسر أغلالا وقيودا فرضتها على ذكراه.. ذكرى ظلت داخلها كالرهينة المنسية، ساكنة يكون الموت في ركن بعيد من روحها لم يستطع أن يصل إليه بشر، تثقل كيانها أينما ذهبت لتذكرها بما جنت يداها فظلمت به نفسها، تماما كما ظلمته. لطالما هربت من مواجهة نفسها بذنبها، فكان النكران هو سبيلها الوحيد لتُبقي أنفاسها تتردد في صدرها، كانت تعلم في قرارة نفسها أن يوم المواجهة آت لا محالة، كانت تعلم أنها ستواجه نفسها يومًا ما لتذيقها عذاب اللوم والتأنيب على ما اقترفت، ولكنها لم تظن أبدا أنها سوف تواجهه هو، وبعد كل تلك السنوات.

دار كل ذلك في رأسها وهي مازالت في مكانها مستندة إلى باب المنزل. لا تدري كم مر من الوقت قبل أن تسترد نفسها وتتجه إلى غرفتها حيث ينام طفلها. إنحنت عند فراشه وأعادت إحكام الغطاء حوله وقبلت جبينه في الظلام ثم اتجهت إلى النافذة لتشد ستائرها، فإذا بها ترى سيارته لازالت في مكانها. تراجعت عن النافذة على أطراف أصابعها واتجهت إلى خارج الغرفة.. إلى أبعدِ ما استطاعت.. كان قلبُها يرتعش خوفًا وأملًا. أنهكها هذا الصراع الجديد وقضى على ما تبقى من قواها الخائرة فاجهشت بالبكاء بصوتٍ عالٍ. تلمست طريقها من بين دموعها بصعوبة وبلغت الحمام فأدارت صنبور المياه بقوة وغمرت وجهها بالماء البارد ليخفف عنها حرارة دموعها، وصحوة مشاعرها المتقدة. تمالكت نفسها من جديد كما اعتادت على مر سنوات الفراق في أعقاب كل نكسةٍ تصيبُها فتجعلها تعاود التفكير فيه. عادت إلى غرفتها ونظرت مجددًا من النافذة فرأت سيارته لازالت في مكانها. استعادت رباطة جأشها وأغلقت الستائر وتسللت إلى جوار طفلها واحتضنته بقوة.. كانت تريد الاحتماء بجسده الضئيل من مجرد التفكير.. والأمل. أغمضت عينيها وتنهدت فتسلل عطرٌ مألوف إلى حواسها وأغرقها: كان طفلها لا يزال ملتفًا بسترته. أرادت الهروب من الذكرى.. فهرب منها النوم.