الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد صلاح يكتب: حمام الغورية

صدى البلد


صرت مولعا بمنطقة الحسين والأزهر وما حولهما، اصبحت مدمنا علي اللف والدوران خلال الشوارع والأزقة والحواري، من اول جامع البنات والموسكي والحمزاوي ودرب سعادة وخان الخليلي وقصر الشوق وسوق الثلاثاء أو كما ينطقه العامة سوق التلات، درب البرابرة والرويعي وغيرها من الحارات التي مازالت تحمل اسماء مملوكية وبيوت اثرية من الحجر تتعانق بجوار أطلال من بيوت طينية لها ابواب قديمة بسمك الزمن،احببت تلك المنطقة بشدة، بروائح العطارة والأقمشة والمخللات والخضروات والفاكهة بأصوات الباعة ونكاتهم وندائاتهم وزحام الناس والوجوه المختلفة .
كنت بعد نقلي من مقر عملي بوسط المدينة الي تلك المنطقة اشبه بالسائح الذي يتحرك ويستكشف وعلي وجهه علامات الدهشة والانبهار وهو يتشرب كل ذرة غبار تعبق في المنطقة، وتتغير السحن والوجوة، ومن منطقة وسط المدينة العامرة بالأزياء والفتيات الجميلة الي منطقة ثانية لها طبيعة اخري تماما، منطقة شعبية، بل لو صح الوصف منطقة اشبه بالبوتقة المصهور فيها التاريخ والزمن بالمكان فلا تستطيع ان تحدد اين ومتي تتواجد الآن بل علي اي ارض تقف.
الداخل من جوار قبة الغوري سيمر حتما علي وكالة الغوري ثم يكمل علي قدميه في شارع ضيق يسمي التبليطة علي يساره سيجد مجموعة محمد بيك ابو الدهب الذي تحولت تكيته الي متحف لنجيب محفوظ ثم يكمل ليجد الجامع الأزهر أمامه، اذا انحرفت يسارا ستجد شارعا يعج بتجار المصاحف والكتب الدينية والعاديات ويتخللهم بائع لحوم وكوارع وامامه تجلس امراة تبيع الفاكهه، وفي شارع الأزهر الرئيس واسفل مسجد أبو الدهب عشرات من بائعي العاديات والمصاحف وسجاجيد الصلاة، مقاهي متناثرة، طشطشة الطعمية تأتيك برائحتها الفاتحة للشهية من محل صغير يجعلك تنسي الرجيم وآلام القولون ووجع المعدة، وتلتهم اكثر من رغيف في شره تستنكره علي نفسك، بجواره تماما محل عصير القصب الذي يختلف كلية عن اي عصير آخر اللهم الا ما يعصر في محافظة الشرقية الغنية بالقصب ويأتيها طازجا، اما هذا المحل فتجد عصيره كأنه أتي من الجنة، باردا ثقيلا له لسعه مسكره تجعلك تنتشي وتتجرع أكثر من كوب.
كل ذلك لا يساوي شئ اذا تعمقت بداخل الحواري، امام متحف نجيب محفوظ شارع صغير يتلوي كلما مشيت فيه حتي آخره تجد نفسك في شارع الغورية، امام محل بائع الطرابيش الوحيد في المنطقة، وهذا الشارع لا يميزه سوي انه يبيع ملابس نسائية، قمصان النوم، العباءات، البيجامات وغيرها من ملابس النساء التي لا تصلح الا للبيت، وفي منتصف هذا الشارع تماما حمام الغورية
اكثر ما يميز حمام الغورية أن ليس به حماما وانما تاجر لبيع المخلل ، يصنع من الموز والمانجو والخوخ وغيرها من الفواكهه مخلالات ويرصها في رصه عجيبة خارج المحل، لا اخفي عليكم سرا لم تطاوعني نفسي ان آكل المانجو مخلالا، فأنا في حالة عشق مع تلك الثمرة الجميلة الخضراء، التهمها وكأنني التهم إمراة فكيف اقترب منها برائحة المخلل، ولكنني كنت فقط اشتري المخلل العادي الذي تعودنا عليه.
شارع حمام الغورية ليس شارعا بل حارة ضيقة، علي ناصيتها محل كشري، وبعده محل المخلل، وبعده محل اخر لتصليح الكاسيتات القديمة يجلس فيه رجل عجوز بجوار عشرات من تلك الأجهزة، في الناحية الأخري محل لبيع الفحم ثم مدخل بيت ضيق للغاية لو حاولت المرور منه ستمر بجنبك، اما بعده فبعض القمامة وعشرات القطط .
كانت تجلس بجوار باب البيت الضيق إمراة عجوز، علي وجهها مسحة من جمال قديم، ترتدي عباءة سوداء كالحة، وعلي قدميها قط ضخم مشمشي اللون ولكنه كان ودودا للغاية، فبمجرد ان رآني حتي ماء بهدوء وكانه يرحب بي، طلبت المخلل من الشاب الواقف بالمحل ثم اقتربت من القط الذي استقبلني برفع راسه وربتت عليه بهدوء فابتسمت المرأه، وسألتها اين حمام الغورية، ضحك الشاب وهو يضع الشطة في كيس المخلل ونظرت المرأة الي آخر الحارة التي تعج بالقطط، وبدات تحكي
قالت بهدوء كان هنا بالفعل حماما، ولكنهم هدموه، قالت انها كانت تعي زمن الحمام وهي صغيرة، والنساء وهن يتوافدن عليه، يدخلن مشعثات تفوح رائحة العرق منهن ويخرجن وقد ازلن الجلخ والوسخ عن جتتهن، تقول انها مازالت تذكر النساء العاملات في الحمام، المكيسة، الماشطة، البلانة، وان لا احد منهن قد بقي فالجميع مات والعمر الطويل لك، وضحكت فجاءة وحكت، ان بعض الرجال كانوا يصعدون الي سطح الحمام، يتجسسون علي النساء من فتحاته، الفتحات التي تخرج البخار، وقالت أن من كثرة البخار لم تكن النساء تر عيون الرجال المتلصصة ولكن الحظ العثر هو ما كان يوقع بعض الرجال فتراهن النساء ويرقعن بالصوت، فيخرج صاحب الحمام الي الشارع يسب ويلعن ، ويجري الرجل أو الرجال فوق السطح تشيعهم الشتائم من الجيران وتهليل العيال ورميهم بالطوب، قالت هدم الحمام فجاءة وبني مكانه بيت.
كانت وهي تتحدث عيناي علي الحارة كلها تمسحها، واثر الحمام قد اختفي، والبيت الذي حل محله كان صغيرا ضيقا، انبعج جزء منه وكانه سيسقط للتو، اخذ لونا عجيبا لا هو ازرق ولا بني ولكنه لونا كالحا لم اعرفه حتي في لوحات اجن التشكيليين، انتهي الشاب من طلب المخلل، وضعه في كيس صغير، والقط الضخم ينظر لي مندهشا، والسيدة العجوز سبحت في ذكريات طفلوتها ونستني.