الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب: استعادة ضعف

صدى البلد

دلفت إلى الحمام وأضاءت مصباحًا جانبيًّا خافتًا. شرعت في نزع ملابسها عنها متعمدة ألا تنظر في المرآة. لم ترد أن ترى أي لمحةِ حزنٍ أو إنكسارٍ على ملامحها حتى لو كانت في قرارة نفسها لا تشعر بهما. 

كانت في الواقع تشعر بقوةٍ لم تعهدها في نفسها.. قوة تولدت بفعل ما عانته من ألمٍ وقهرٍ صهرا ما تبقى بداخلها من ضعفٍ أنثويٍّ محبب. كانت قد تحولت رغمًا عن إرادتها وعلى كراهةٍ منها لصورة كل امرأة سبقتها إلى هذه التجربة.. صورة لطالما أثارت في نفسها النفور، فكانت تنظر إلى كل من تتمثل فيها نظرة تهكمٍ وبغض، بل وتتساءل في نفسها كيف سمحن لأنفسهن بنسيان أنوثتهن والتماس مظاهر قوة ذكورية، ليس فقط في مظهرهن الخارجي، ولكن والأدهى والأمر في جفاف مشاعرهن وقسوة قلبوهن، وتحجر الحنان في أعينهن، وموت أرواحهن وأجسادهن على قيد الحياة. ولكن، وياللمفارقة، ها هي تعيش نفس الحالة التي اعتادت السخرية منها والزهو بعدم الانتماء لها.. يبدو أن من عاب ابتليَّ بالفعل.

ابتسمت لهذه الخاطرة الساخرة وبدأت بفتح صنبور الماء الساخن ملتمسة منه بعض الدفء لأطرافها التي تسربت إليها البرودة. انتظرت نحو دقيقة حتى سخن الماء وتصاعد بخاره ليملأ الحمام.. انتظرت بصبر رغم ارتعاش روحها قبل جسدها. شعرت بامتنانٍ شديدٍ لما اكتسبته من جلدٍ وصبرٍ نميا بداخلها على مدار شهور عذاب، وصاحباها حتى هذه اللحظة. 

مدت أصابعها تحت الماء المنساب لتجس درجة حرارته وردتها إليها هربًا من سخونته الشديدة. كان عليها أن تبرده بعض الشيء قبل أن تندفع تحت جريانه بكامل جسدها. أخذت تفتح صنبور الماء البارد وتمد يدها كل بضع ثوانٍ بحثا عن توازنٍ مفقودٍ ما بين سخونةٍ وبرودة: كان الدفء هو ما ينقصها.. كان الدفء هو جل ما تبحث عنه. يا ترى كم سيمضي من الوقت قبل أن تجده فتستكين روحها إليه؟.

مدت ساقها اليمنى إلى داخل حوض الاستحمام وتلتها باليسرى، ثم كامل جسدها أخيرًا تحت الماء. غمرها جريان الماء فوق رأسها في زخاتٍ متتاليةٍ بإحساسٍ غريب.. شعرت بأن السنوات الخمس الماضية تتساقط ساعةً تلو الأخرى.. بل لحظةً تلو الأخرى مع كل زخة ماء تضرب رأسها في لطف.. فتغسل أفكارًا ووساوس يأسٍ سيطرت عليها رغم طبيعتها المرحة، ثم تتجه منسالةً على جسدها في حنوٍ لتمحو على استحياءٍ ذكرى لمساتٍ اعتادت استقبالها في برود ودون رغبة حقيقية، وآثارًا رغم قسوتها وما سببته من ألمٍ إلا أنها كانت أخف وطأة عليها من كل ألمٍ نفسي. شعرت بتحررٍ روحيٍّ طمأنها.. وأمدها بقوةٍ إضافيةٍ تعينها في انتظار تحرر جسديٍّ كاملٍ سوف يأتيها بعد ثلاثة قروء. ابتسمت مرة أخرى رغم توجساتها المتشائمة، فزادت من سخونة المياه علها تكوي تلك الهواجس إلى الأبد، وتكوي جرحًا غائرًا في قلبها.. تعلم يقينًا أنه سيندمل.. حتمًا سيندمل.. يومًا ما.

أنهت حمامها وتدثرت بمبذلها وخرجت مسرعةً قبل أن يلفحها صقيع الممر المؤدي إلى غرفتها. ارتدت ملابسها على عجل ثم اتجهت إلى ركنها المفضل في مواجهة نافذتها.. نظرت مطولًا إلى السحب في السماء محاولة اختراقها، إن لم يكن بنظرها المحدود فبكيانها اللا محدود كما خلقه الله لها، وكما شعرت به دومًا.. حلقت فوق كل همومها في لحظة وتسامت على أوجاعها واستسلمت لصلاتها. كان هذا عهدًا عليها أشبه بالنذر: أن تصلي شكرًا لله فور تحقق مرادها. أدت صلاتها بصدقٍ وتمهلٍ شديدين.. ثم جثت على ركبتيها وتضرعت بأعز رغباتها إلى نفسها في صمت: "اللهم كما ناجيتك طالبةً منك القوة فأجبتني.. اللهم فأعد إليَّ ضعف نفسي.. فشوقي لضعفي قد بلغ بي المدى."

تمت.