الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

زمن الاكتفاء الذاتي


البعض يُسميه "الزمن الجميل".. وأنا كباحث علمي أرى من الأفضل تسميته "زمن الاكتفاء الذاتي"، لأن هذا هو سر جماله الحقيقي.


في هذا الزمن كانت القرية مكتفية من كل شيء تقريبا: الفلاح يزرع ويخزن المحاصيل التي تكفيه إلى الحصاد التالي، وكان من لا يملك مخزون الحبوب في بيته معرضا للمعايرة والغمز واللمز ويقال عنه "مفيش في بيتهم قدح غله".. وكانت النساء في البيوت تخبز في الفرن البلدي وتطبخ على "الكنون" لتطعم أسرتها، وأحيانا تصحو ساعة الفجر لتحضر لها الفطير المشلتت.


كانت القرية مكتفية أيضا من الألبان ومشتقاتها كالجبن بنوعيه القريش والقديم والرايب والزبدة والسمن البلدي، ومكتفية كذلك من الخضار والفاكهة، وتكتمل نعمتها بالعسل الأسود الذي كان يأتي على المراكب من قنا في "بلاليص".. 


ومن صوف الغنم كانت تُصنع مفارش متعددة الألوان والأغراض وملابس خشنة كالعباءات والجبب.. أما أدوات الطبخ فكانت من الفخار وتباع في السوق أو تأتي امرأة تسمى "الهمّارة" تصنعها في البيت حسب الطلب، وحدّاد القرية يصنع السكاكين والمقصات والسلاسل والمناجل والفؤس وقطع غيار المحاريث والنوارج.. 

وكان يوم السوق تجمعا اقتصاديا مهما كل أسبوع يتبادل فيه سكان القرى كل هذه المنتجات فيما بينهم.. من لديه شيء يبيعه ومن ثمنه يشتري ما يحتاجه.. هكذا كانت تسير الحياة مكررة ورتيبة من سوق إلى سوق ومن سنة إلى سنة عبر مئات السنين.


خلال هذه الحقبة الطويلة جدا، كان التعليم محصورا في الكتاتيب ومنها يصعد عدد قليل من الطلاب إلى الأزهر، لا طب ولا هندسة ولا علوم، لأنه لا مدارس، عملا بفتاوى صدرت قبل 800 سنة لفقهاء مثل ابن تيمية وابن القيم كفّروا فيها العلماء الكبار أمثال ابن سينا والرازي وابن رشد، وحرموا كل العلوم غير الدينية وقالوا أنها تمثل خطرا على الإسلام وتقود إلى الإلحاد! 


بنظرة علمية أكثر عمقا، كان هذا الزمن خليطا من حياة الفراعنة وحياة العرب الأوائل.. فمثلا، كان بيتنا في الصعيد مكتظا بالآدوات الزراعية الفرعونية كالمنجل والمذراة والفأس والمحراث وصوامع الطين..  والحدّاد الذي رأيته في قريتي هو نفسه الحدّاد الذي كان يصنع السيوف للصحابة في مكة والمدينة منذ 1400 سنة!.. 


وبينما نحن على هذا الحال، كان غيرنا يبحث ويكتشف شيئا جديدا كل يوم.. سأتكلم هنا عن مثل واحد فقط وهو صدأ الحديد.. نحن نراه أمرا طبيعيا ولا ننتبه إليه، لكن هناك من رآه مشكلة كبيرة واهتم به.. بحث الأوروبيون طويلا لوضع حل لمشكلة صدأ الحديد وفعلا توصلوا إلى حلها بإضافة نسبة من الكروم إلى الحديد وحوّلوه إلى "ستانلس ستيل".. حدث هذا قبل 200 سنة من الآن، وبهذه الفكرة البسيطة سبقونا في صنع الآلات الجراحية والمكائن وقطع الغيار واستمروا في تطويرها حتى صنعوا كل ما يُغرس في جسم الإنسان ولا يتفاعل معه كمسامير العظام والمفاصل الصناعية وغيرها.. نشتري الآن منهم مسمار تثبيت العظام بألف جنية والمفصل الصناعي بثلاثين ألفا! بينما بقي الحدّاد عندنا كما هو، وصدأ الحديد لا يمثل لنا مشكلة!


في عصرنا أصبحت الصناعة أسرارا وكل من يكتشف شيئا يعتبره سرا ويبيع اكتشافه بأغلى سعر.. الأجانب عرفوا الغواصة وأسرار صناعتها منذ 200 سنة واستخدموها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بينما نحن لم نحاول أو نفكر في صناعتها وفرحنا عندما أهدتنا ألمانيا مؤخرا غواصة صغيرة، وفرحنا كذلك عندما أهدتنا فرنسا مشكورة حاملة طائرات صغيرة أيضا.


نعم كان الزمن الماضي جميلا لأنه كان مكتفيا ذاتيا ولدى أهله طيبة وعزة نفس، لكن علميا، كان مجتمعا في غاية الجهل والتخلف، ولما استيقظ متأخرا كان قد فاته القطار، وعليه أن يستورد كل شيء بالدولار..


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط