الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

"داعش".. كيف عاد؟ ولماذا؟


في ظل انشغال العالم بوباء "كورونا" المستجد، وانشغال كل الأخبار ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم بالحديث عن تطورات الفيروس، وتحوله إلى جائحة عالمية. وبعد الاعلان عن تطهير غالبية مناطق سوريا والعراق، عادت تنشط بين الحين والآخر فلول الإرهابيين، الذين اختبأوا في جيوب المناطق الصحراوية، حيث شكلوا مجموعات أخذت تنفذ هجمات متقطعة على مناطق للجيشين العراقي والسوري، في حين يتم التصدى لها بكل حزم.


انحسار جغرافيا تنظيم "داعش" الإرهابي، وانهيار ما يسمي بدولة الخلافة، نهاية عام ٢٠١٩. اثار وقتها تساؤلات كثيرة منها علي سبيل المثال لا الحصر، هل نشهد بداية جديدة للتنظيم؟ أم نشهد ولادة تنظيم جديد؟. وها نحن اليوم نسأل مرة أخري، كيف عاد التنظيم للظهور مرة أخري؟ ولماذا؟.


ما تسرعت في إعلانه الإدارة الأمريكية لتسجيل انتصار، باسم إنهاء الحرب علي "داعش"، ربما تستدركه في دعمه لتبرير البقاء في سوريا والعراق. فالتنظيم الإرهابي، يطل برأسه من جديد في محافظات كركوك وصلاح الدين وديالي. إحياء عظام "داعش"، وهي رميم في العراق، لا يعيق القوات العراقية ولا جبهات المقاومة، عن مواجهة التواجد الأمريكي في البلاد.


يبدو أن السلوك الأمريكي اليوم في العراق، والذي ساهم، بل أسس لإعادة ظهور "داعش"، يمكن استنتاجه من خلال غض الطرف عن تحركات عملية وتحضيرات لوجستية للتنظيم. لقد بات واضحا أن المناورة بالتنظيم الإرهابي، منذ نشوئه في العراق عام ٢٠١٤، أو بالأحرى منذ بداية إنشائه، لم يكن هدفها الأساسي إنشاء "دولة إسلامية" في العراق وسوريا، بل كانت هذه "الدولة"وسيلة لاستهداف عدة دول في المنطقة، مع تركيز أساسي على العراق في الدرجة الأولى، وسوريا في الدرجة الثانية. 


فبعد إعلان الانتصار على التنظيم، في العراق وسوريا، حيث جاء الإعلان الأخير زمنيا، من قبل قوات سوريا الديموقراطية، "قسد"، في مارس ٢٠١٩، بأنها ألحقت الهزيمة النهائية بـ"داعش" في آخر جيب له في الباغوز شرق سوريا، ها نحن اليوم، نشهد ما يشبه انبعاث التنظيم من جديد، وأيضا في كل من العراق وسوريا. 


التحالف الدولي الغربي، بقيادة واشنطن، والذي حارب التنظيم وانتصر عليه، ما زال ينتشر ويملك التواجد والنفوذ نفسهما قبل الإعلان عن هزيمة التنظيم، وهو أيضا يعمل جاهدا، على تثبيت هذا النفوذ وتقويته في شرق سوريا، وتحديدا شرق الفرات. وفي العراق، من خلال انتشار واسع لقواعد أمريكية، جوية وبرية، ومن خلال السعي الدائم للتدخل المتواصل، لتوتير الساحة العراقية سياسيا وأمنيا واقتصاديا، بهدف إضعاف قرار السلطة وتشتيتها خدمة لبقاء قواته وقواعده. فكيف يمكن تفسير ذلك؟.


يتركز الحراك الجديد لـ"داعش" في سوريا شرق الفرات، من خلال عدة أشكال منها، ضمن جيوب منتشرة ومبعثرة لم يسمح لقوات سوريا بحسمها بشكل نهائي، بحجج تقوم على حماية خصوصية المكون العربي، تحضيرا ربما لتكليفه بدور معين لاحقا. أيضا، من خلال حركة فرار واسعة لعناصره من سجون قوات سوريا الديموقراطية، وبالآلاف، إضافة إلى حركة نقل لبعض هؤلاء باتجاه الداخل العراقي بطائرات و آليات أمريكية، كما أن هناك تواجدا متواضعا لبعض عناصر التنظيم، في عمق الصحراء بين جنوب غرب دير الزر وجنوب شرق السخنة، تحت طابع العصابات المختبئة في المناطق الوعرة من الصحراء.


في سوريا، لم تكن أهداف واشنطن، مشابهة لأهدافها في العراق، من ناحية تثبيت وجودها بشكل دائم، والدليل أن عدد وحداتها لم يتجاوز حتى اليوم ألفي عنصر وضابط، على الرغم من قدرتها على زيادة العدد، عبر عشرات القواعد الجوية التي تنشرها في سوريا، ولكن من المؤكد أن لديها فيها أكثر من هدف استراتيجي، يتعلق بمنع إكمال الترابط الميداني والجغرافي بين طهران وبيروت عبر العراق وسوريا وعرقلته. أما في العراق، فإن حراك "داعش"، يأخذ طابعا أكثر خطرا وفعالية من حراكه في سوريا، حيث يعاود الانتشار والتمركز وتنفيذ عمليات أكثر من محدودة ضد الجيش العراقي والحشد الشعبي، انطلاقا من مثلث محافظات ديالي – كركوك - صلاح الدين. حيث ما زال هناك تواجد غير بسيط للتنظيم شمال غرب الأنبار.


"داعش"، يعاود الظهور في سوريا، ويعزز من قدراته في العراق، بل وحسب تصريح لـ مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكية، قال فيه إن "داعش بات أقوى اليوم مما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات في بعض المناطق من سوريا والعراق". وتزامنت تلك التصريحات مع تصاعد الحرب ضد الاستراتيجية التوسعية لإيران في المشرق، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنها تأتي في سياق تقديم الذرائع لإبقاء القوات الأمريكية في سوريا والعراق. 


ولكن كيف عاد التنظيم؟ لم يتم القضاء على التنظيم، بل تم تدمير بناه الرسمية المعلنة "الدولة"، أما قوته البشرية من عناصر وقيادات ومنظرين ومخططين ومتعاطفين، فما زال منهم العدد الكافي لاستمراره. وأعضاء التنظيم ينتشرون في صحراء الجزيرة السورية، حيث لا يزال التنظيم يسيطر على مساحة شاسعة هناك، وشمالي الباغوز على الحدود العراقية، أو في الجيوب الصحراوية الأخرى التي تقع داخل مناطق سيطرة الجيش السوري. كما أن منهم من تخفى في مناطق تمركز فيها التنظيم طويلا منذ نشأته مثل بعض بلدات ريف دير الزور الشرقي التي كانت آخر مناطق سيطرته التي تمسك بها، ومنهم المحتجزون في مخيم الهول وسجون "قسد" المكتظة، حيث يستطيع القادة والمخططون ارسال أفكارهم ومساهماتهم سواء عبر وسائل الاتصال المتوفرة، أو بالاتصال الشخصي عن طريق آلاف المفرج عنهم من عناصره. هذا عدا عن كتلة كبيرة من الدواعش السابقين الذين أعلنوا توبتهم ويعيشون في مناطق سيطرة الجيش السوري.


من ناحية أخرى، استعد التنظيم من خلال خبرة قادته الطويلة بمسارات التنظيمات الجهادية، لهذه المرحلة شبه الحتمية، وأسس منذ انطلاقته تنظيما أمنيا سريا موازيا، "الولايات الأمنية". هيكلية واستراتيجية هذا الكيان السري تقوم على حفظ بقاء التنظيم، وتطوير امكانيته، ريثما تحين الظروف الملائمة لانبعاثه مجددا.


أما من الناحية المالية، فإن التنظيم، الذي كان غنيا لأربع سنوات، سيطر فيها على ثروات هائلة، يمتلك بالتأكيد مدخرات تمكنه من البقاء على قيد الحياة. وحسب مراقبون، فإن التنظيم لا يزال يمتلك  أكثر من ٤٠٠ مليون دولار مخبأة بأشكال مختلفة في سوريا والعراق وحتى في دول مجاورة.


احتاج العراق، و التحالف الدولي، إلى أكثر من ثلاث سنوات لطرد التنظيم من المناطق التي احتلها، وسطرت تضحيات كبيرة جسام. و لكن لم يتوقع أحد أن التنظيم، قد تم القضاء عليه بشكل نهائي. حيث إن الناجين من التنظيم، قد عادوا إلى أماكن اختفائهم و المناطق التي انطلقوا منها، و هي مناطق أما جبلية أو صحراوية غير مأهولة بالسكان، و قد حصنها بشبكة من الأنفاق التي تساعد على اختفائهم و المناورة بالحركة. القسم الآخر انتقل للعمل الجهادي في أماكن مختلفة من العالم، و كانت التوقعات أن تكون مناطق شمال و وسط أفريقيا و منطقة الصحراء الكبرى، إحدى أهم مناطق نشاطه المحتملة.



في العراق، هناك أربع مناطق يختفي فيها عناصر التنظيم، و هي تلول حمرين بين ديالى و كركوك و جبل مكحول في صلاح الدين و المنطقة الممتدة غرب الموصل إلى الحدود السورية و شمال و جنوب حوض الفرات  في الأنبار. لقد قامت القوات العراقية مدعومة بقوات التحالف بعمليات ملاحقة في عدد من هذه المناطق، غير أنه لم يتم اعلان القضاء على التنظيم، حيث كان يتحين الفرصة لتوجيه ضربة بين الحين و الآخر للقوات العراقية في أماكن يعتبرها واهنة لأغراض إعلامية أكثر منها عملياتية، و محاولة منه لشد الانتباه و رفع معنويات عناصره ومؤيديه، علما أن التنظيم، خسر الكثير من قياداته العملياتية و التعبوية وبالأخص قائد التنظيم أبو بكر البغدادي.


لذلك فإن التنظيم بصورة عامة يعاني من الضعف و عدم القدرة على تنفيذ عمليات بحجم و نطاق احتلاله للموصل، و لكن ذلك لا يعني أنه غير قادر على اعادة تنظيمه و العودة إلى نشاطاته الروتينية التي اعتاد العمل عليها قبل يونيو ٢٠١٤، كالتسلل إلى المدن وزرع خلايا نائمة و تنفيذ هجمات هنا و هناك مستفيدا من هشاشة الوضع الأمني في بعض المناطق.


أخيرا، نستطيع القول إنه لا يمكن بأي حال من الأحول القضاء على أي تنظيم إرهابي، من دون القضاء على بناه التحتية (الفكر، التمويل، التطويع، البيئة الحاضنة، و البيئة الملائمة للنمو سياسا و اقتصاديا). ومن ثم لابد من تبني إستراتيجية شاملة لغرض إعادة النظر في معالجة الأسباب الحقيقية لظهور وتنامي مثل هذه التنظيمات، ولا سيما، أن  معظم هذه التنظيمات قد خسرت واحدة من أهم عناصر قوته، ألا وهي تأييد السكان في مناطق تواجده.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط