الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د.إنجي جمعة تكتب: النظام التركي ومحاولات إحياء الدولة العثمانية

د. انجي جمعة
د. انجي جمعة

شهدت السياسة الخارجية التركية تجاه دول الجوار الشرق أوسطية والعربية بشكل خاص صحوة مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002م، حيث تبنت حكومة حزب العدالة والتنمية توجهات جديدة وبدأت فى إيلاء المزيد من الاهتمام بشؤون الاقاليم الجغرافية المجاورة وخاصة تلك التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية، وفي هذا الصدد يقول "أحمد داود أوغلو" مهندس السياسة الخارجية التركية فى عهد حزب العدالة والتنمية : "ورثت تركيا التاريخ العثماني، الذي نجح فى حماية الخريطة الجيوثقافية للمنطقة تحت مظلة نظام دائم استمر خمسة قرون، من خلال الحد من المخاطر السياسية. وقيام تركيا بتفعيل ذلك الإرث الآن، بوصفه دعامة استراتيجية، لهو من الأهمية بمكان، ليس فقط فى إطار سياسات تركيا الإقليمية، وإنما أيضًا في سبيل تأسيس نظام عادل ودائم فى المنطقة."


وضع "أحمد داود أوغلو" في كتابه العمق الاستراتيجي الخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية التركية الجديدة، فيري أن على تركيا أن تتصالح مع ميراثها العثماني داخليًا وخارجيًا، وتعتمد سياسة "القوة الناعمة" في تلك المناطق التي كانت خاضعة للدولة العثمانية. 


وصرح رئيس وزراء تركيا حينذاك رجب طيب أردوغان في كلمته أمام الأكاديمية الدولية للعلوم والفنون فى إسطنبول – أكتوبر 2007: "إن الأمة التركية أمة حكمت لأكثر من ألف عام فوق هذه الأراضي التي تمثل مهد أعرق الحضارات فى العالم ... ولن يكتب لأى مشروع في هذه المنطقة  النجاح والاستمرارية ما لم تتزعمه تركيا وتقود قاطرته.


فوصول تيار الإسلام السياسي الممثل في حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم فى تركيا حسم إشكالية الهوية التي عانت منها تركيا منذ تقطيع أوصال الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة لصالح انتمائه الإسلامي، وقد ترجمت حكومة العدالة والتنمية ذلك على أرض الواقع فسيطر عليها حلم إعادة دولة الخلافة. 


وفي هذا الشأن يشير "محمد سعد أبو عامود" إلي أن: حلم إعادة إنتاج دولة الخلافة العثمانية  يسيطر بدرجة كبيرة وملحوظة والسلوك السياسي على القيادة السياسية التركية وفكر حزب العدالة والتنمية الحاكم..، ويطلق البعض على هذا التوجه العثمانية الجديدة. 


- إذن ما هي سياسة العثمانية الجديدة ؟ ....

ترجع بدايات استخدام مفهوم العثمانية الجديدة إلى سبعينات القرن العشرين على يد عدد من المفكرين والسياسيين الأتراك، فظهر في سياسات "عدنان مندريس" حيث قام بعدة إصلاحات ثقافية شكلت بدايات تغيير الرؤية الرافضة للماضي العثماني، وتبلور هذا المفهوم بعد عدة عقود بشكل أكثر وضوحًا فى سياسات "تورجوت أوزال" ليتحول رفض الماضي العثماني إلى اعتزاز وتمجيد، وقد تراجعت العثمانية الجديدة لتظهر من جديد من خلال سياسات "نجم الدين أربكان" بالتركيز على أهمية التراث العثماني كمكون من مكونات المجتمع التركي مؤكدًا على أن الإسلام والتراث العثماني أهم خصائص الهوية القومية التركية، ومع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا وتبنيه رؤية جديدة على الصعيدين الداخلي والخارجي تَحمل إحياء التراث العثماني، وتعزيز الدور التركي في مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية القديمة تبلور مفهوم العثمانية الجديدة كعامل مؤثر في السياسة الخارجية التركية. 
 

فالعثمانية الجديدة هي: "تحقيق التجانس بين التراث العثماني التركي والتراث الإسلامي في الداخل والخارج انطلاقا من الإيمان بأن تركيا  قوة إقليمية كبري ودولة محورية في محيطها الجغرافي"، وذلك من خلال تدعيم مصادر قوتها الناعمة، وتعظيم نفوذها السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والثقافي في المناطق التي كانت تابعة تاريخيًا للإمبراطورية العثمانية، وحيث يكون لتركيا مصالح استراتيجية. 

وقد تكررت الاشارات إلى العثمانية الجديدة كمحدد أيديولوجي للسياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة العربية من جانب القيادة التركية، ومن أبرزها ما ذكره أحمد داود أغلو عام 2010م في حوار مع الواشنطن بوست من أن تركيا تسعى لكومنولث عثماني تتزعمه على غرار الكومنولث الإنجليزي. كذلك إرجاع رئيس الحكومة آنذاك رجب طيب أردوغان في يوليو 2012 أسباب التدخل في الشأن الداخلي السوري إلى "مسؤوليات تاريخية" على تركيا كونها "حفيدة السلاجقة والعثمانيين.


ومع اندلاع الاحتجاجات الشعبية فى العديد من الدول العربية ، والتي بدأت من تونس ديسمبر 2010 وامتدت لعدد من الدول العربية مع مطلع عام 2011، ووصول قوى الإسلام السياسي للسلطة فى تونس ومصر وليبيا ومن قبلها سيطرت حماس على قطاع غزة عام 2006م، وجدت القيادة السياسية التركية فى تلك الأحداث فرصة تاريخية لتحقيق مشروعها الإقليمي بتزعم تركيا للشرق الأوسط. 


شهدت السياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة العربية تحولًا كبيرًا خلال السنوات التي أعقبت عام 2011م ساعية إلى مد نفوذها الإقليمي، من خلال تزايد الاعتماد على الأداة العسكرية على مسرح الأحداث الإقليمية، فتمركز الجيش التركي على الحدود مع العراق وسوريا، وأسست عدة قواعد عسكرية في سوريا، وقامت بتدشين قاعدة عسكرية في الصومال بداية أكتوبر 2017، وأخرى في قطر، وقد تعددت التصريحات التركية الرسمية التى ربطت ذلك بالرغبة التركية في إعادة السيطرة على المناطق التى كانت خاضعة للدولة العثمانية منذ عقود مضت. 
 

فتطورات الأحداث في الدول العربية لم تخدم الأطماع التركية في تحقيق مشروعها، حيث سقط نظام حكم الجماعة في مصر، ووقعت ليبيا تحت براثن الفوضى، وتم تحييد دور تيار الإسلام السياسي في تونس، وفي سوريا مئات الألاف من القتلى والجرحى وملايين اللاجئين، فضلًا عن أنه تم تدويل الأزمة السورية لتتحول الأراضي السورية إلى ساحة للتنافس بين العديد من القوى الدولية والإقليمية، وتتمركز الجماعات الإرهابية على الحدود العراقية – التركية والسورية – التركية، كما تعالت أصوات أكراد العراق مطالبة بالاستقلال مما بات يهدد وحدة الدولة التركية. 


وقد ألقت تلك التحولات بظلالها على السياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة العربية والتي أخذت فى النزوع إلى استخدام القوة الخشنة بدلًا من سياسات القوة الناعمة، كما تمركزت القوات التركية على الحدود مع سوريا والعراق، وقامت بعمليات عسكرية  فى عدد من المدن العراقية والسورية كعملية "درع الفرات" وعملية "غصن الزيتون". 


وأظهرت تركيا الوجه الأكثر قبحًا عندما سعت للتدخل العسكري في ليبيا تلك الدولة التي لا تملك معها حدود مباشرة، فحيث اتخذت من حماية حدودها ذريعة للتدخل العسكري في سوريا، ومن قبلها العراق، فالأمر في ليبيا مختلف فلا حدود مشتركة، وإنما جاء وبشكل صريح لنصرة فصيل ضد أخر، مما يعد انقلابا على كافة الأعراف والمواثيق الدولية، وفي شكل يأتي كتهديد مباشر للأمن القومي لدول الجوار الليبي.