الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم عطيان يكتب: مازال النيل يجري

صدى البلد

 غالبًا ما تساعدك تجارب الآخرين على تطوير نفسك وإعدادها معرفيًا وعلميًا ومهاريًاّ، ولكن من الضروري الأخذ في الاعتبار أن تجارب الآخرين يجب أن تؤثر علينا بالإيجاب فقط لا السلب،
بمعنى تحضير النفس داخليًا وخارجيًا، من تفاؤل ونظرة إيجابية وأخذ الحيطة والحذر ومعرفة الطريق الأصلح لإدارة المواقف وتذليل العقبات.

أشياء تعلمتها بينما كنت مقيمًا بدولة الإمارات العربية المتحدة، إذ جمعتني الأقدار برجل دين مصري يعمل بأحد المساجد هناك،
رأيت فيه الصورة الحقيقية لرجل الدين الحق بعيدًا عن السفهاء ومعدومي الفكر، والنماذج السيئة من تجار الدين التي جسدتها ومازالت تجسدها الدراما والسينما للأسف عن عمدٍ، ناهيك عن تسليط الضوء على تلك النماذج والتركيز في إبرازها وكأن ساحة العلم والدين باتت خالية إلاَّ من السفهاء ومرتزقة العلم والدين!!

ولكن العلم الغزير والاعتدال الفكري الذي شاهدته في هذا الشيخ الفاضل دفعني لتسجيل اعتراضي على معظم المحتوى الذي تقدمه الدراما والسينما في هذا الصدد، كما دفعني مشهد التفاف الناس حوله وابتسامته العريضة في وجوه الجميع إلى الاقتراب منه، والاستفادة من خبراته الحياتية حيث تأكدتُ في قرارة نفسي من وجود سر يكمن في تلك الشخصية دفع الناس إلى الثقة بصاحبها والتقرب إليه، ولكن ما وجدته لم يكن سرًا مخفيًا، أو قدرات خارقة بقدر ما هي مهارة اجتماعية أهلته لاحتلال هذه المكانة بين الناس.
وللوهلة الأولى تذكرت الفنان هشام سليم في دور الشيخ هاشم العدوي الذي جسده باحترافية في مسلسل « مازال النيل يجري » وجلستُ بعيدًا أفكِّر، لماذا جنحت الدراما عن تقديم مثل هذه النماذج التي يمكنها أن تعيد للمواطن البسيط ثقته في رجل الدين المعتدل؛ حتى لا ينحرف عن الصواب، أو ينجرف في تيار العنف والتشدد خلف أشخاص لا علاقة لهم بالدين أو العلم،
لكنهم اتخذوه مهنة، بعدما أصبح مهنة من لا مهنة له، وتجارة غير مشروعة للإيقاع بفرائسهم من الأطفال وضعفاء الشباب.
كما تعيد لرجل الدين صورته الحقيقية ودوره الأساسي في الدعوة والإرشاد داخل المسجد، بعيدًا عن السياسة أو التطرف. 
ولما كان هذا الشيخ الجليل دائم الحرص على بث الثقة والأمل في نفوس المحيطين به، استطاع أن يؤثر فيهم، بل ويعدِّل من سلوك بعضهم ويجمعهم حوله بسهولة ويسر،
وعندما سألته قال: إن الثقة بالله ثم بالنفس منهج ديني حثَّنا عليه الإسلام، ثم تلى قوله تعالى:  ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ 

أدركت في ذاك الوقت أن التغيير لا يعني أن تُغيِّر من نفسك فقط؛ فأنت في النهاية فرد في مجتمع كبير، بل الأهم من ذلك أن تُغيِّر سلوك من حولك للأفضل متى كنت مستطيعًا، ولكي تصل إلى هذه المرحلة يجب أن تبدأ بنفسك أولًا. 
فإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول: 
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ 

فإن أقل ما يمكن أن تقدمه لمجتمعك هو أن تعتني بنفسك أولًا، ولكن أفضل ما يمكن أن تقدمه أن تغيِّر منها ليتغيَّر المجتمع. 

ولما كان ذلك هو تعقيبي على ما رأيته منه تبسم كعادته وقال: قبل عشرين عامًا كنت تقريبًا في نفس عمرك أحبُّ المعرفة.
و ذات مساء تلقيت مكالمة هاتفية من أحد الأشخاص الذين لا تربطني بهم سوى علاقة سطحية لا ترتقي حتى لزمالة عمل، ولكنه أصر أن يدعوني إلى حضور حفل خطبته على فتاة تسكن في حي مجاور، ولكن ما أعرفه عن هذا الشخص لا يبعث أبدًا على التفاؤل رغم كونه من أصحاب العلم والدين والخلق الكريم إلى حانب حسبه ونسبه الطيب الأصيل، لكنه دائمًا رغم ذكائه ومستواه المادي والاجتماعي يفتقر إلى الثقة بالنفس والآخرين ويهاب المواجهة.
لم يكن لديه من الثقة بالنفس ما يكفيه كي يمشي في طريق بين الناس، أو يختلط بجار أو زميل في عمل أو دراسة، فمن أين تأتيه الثقة كي يقترب من فتاة وكيف يمكن له أن يدبر أمر بيته مستقبلًا؛ فهو بحسب الفكرة التي تكونت لدي عنه وما أمتلكه من معلومات شخص متردد ضعيف الشخصية بين الناس،

لا يجرؤ على اتخاذ قرار ولا يقدم على فعلٍ أمام الناس، يلتفت يمينًا ويسارًا قبل أي عملٍ لأنه يخشى الفشل، فيبدو مريبًا في أغلب الوقت وكأنه يخبر الناس بمواطن ضعفه.

وبدأ القلق يساورني من مصير تلك العلاقة؛ فهو ليس لديه ثقة في نفسه من ناحية المظهر، فتجده في أبسط المواقف يهتز حتى من مجرد نظرات الآخرين إليه؛ لأنه لا يقدر نفسه حق التقدير وبالتالي فهو دائمًا لن يكون محل تقدير واحترام من الآخرين؛ فالناس يروننا كما نبدو لأنفسنا، إذ أنك لن تجد من يثق بك إن لم تكن واثقًا بنفسك، ولكن هذه الثقة قطعًا يجب أن تكون عقلانية، ولها حدود؛ كي لا تدفعك إلى غرورٍ يدعو إلى السخرية، ويفقدك محبة واحترام الآخرين.

لكني عزمت على حضور الحفل ومشاركته تلك اللحظات ولا سيما إشعاره بقيمته وحسن اختياره لتلك الفتاة التي يتمناها الكثير، لكنها أيضًا أحسنت الاختيار حين فضلته على غيره، وكذلك عائلتها الكريمة التي باركت هذ الاختيار الموفق، واحتسبت ما أقوم به من مساندة ومشاركة واجب ديني وأخلاقي؛ لعلها تكون نهاية لحقبة زمنية عاشها الشاب بعيدًا عن الثقة بالنفس، ونواة طيبة لشجرة ثقة قد تنمو بداخله ويتغير مجرى حياته إذا وجد من يعينه على ذلك.

وكان قرار حضوري للحفل ومساندة هذا الشاب بناء على شعوري بالمسؤولية؛ خشية أن تتخطفه أياد العابثين من أصحاب المصالح والمآرب الخبيثة، فهم دائمًا يبحثون عن هكذا نماذج؛ حتى لا يجدوا عناءً في السيطرة عليهم واقتيادهم لتنفيذ الأمر.

وعندما رآني ألملم أشيائي أدرك أنني قد اقتربت من الانصراف إلى عملي فقال: أَعلمُ جيدًا أنك على قدر كبير من الوعي،
لكن هذا لا يمنع أنك بحاجة إلى النصيحة، فقلت له عظني.
فقال: 
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ:
« شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتْ »
ولما نظرت إليه مبتسمًا قال: أظنك الآن قد فهمت المغزى، 
فتلك هي أركان الإسلام كما حدثنا رسول الله ﷺ. 
فانصرفت مطمئنًا عندما أيقنت أن هاشم العدوي مازال موجودًا،
و أن النيل رغم قيده سيظل يجري، ولن يتوقف.