الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دعاء الجهيني تكتب: مصلحة المواطن بين التوافق والتعارض

صدى البلد

من طبيب الغلابة إلى انفجار بيروت، حدثان متتابعان بينهما أيام معدودة، كل حدث منهما نقيض للآخر، فأما الحدث الأول فهو وفاة معجزة الانسانية ورمز الأخلاق وتوافق المصالح الدكتور محمد مشالي خادم الفقراء، الذي وافق مصلحته الخاصة بمصلحة العامة من الطبقة الفقيرة، ليمثلهم خير تمثيل وينفعهم حق منفعة. وأما عن الحدث الثاني فهو انفجار بيروت الذي راح ضحيته مواطنون نتيجة اهمال المسئولين وتقصيرهم ومضاربة مصالحهم الخاصة بالمصلحة العامة. 


فما بين توافق المصالح وتعارض المصالح قصص كثيرة وقضايا لا حصر لها سواء في  المهنة العامة أو المسئولية العامة أو الوظيفة العامة. فالمسئول لا يعني الشخص الذي يحتل منصب رفيع في الجهاز الحكومي، المسئول هو من يتحمل مسئولية تفويضه لتمثيل مصلحة الغير بأمانة وصدق، وروح المسئولية محاطة بالتعب والمشقة، لا بالرفاهية والمكانة الاجتماعية والربح. من يتحملها يجب أن يعي تمامًا أنه سيسخر نفسه لخدمة المنتفعين من مسئوليته، عليه أن يعي تمامًا أن المسئولية وسيلة للخدمة العامة وليست غاية. ليست وسيلة للتربح أو جمع الثروة. "من أراد التربح والمكسب عليه بالعمل في البورصة أو الاستيراد والتصدير"، هذه الجملة قالها طبيب الغلابة في أحد اللقاءات، ناقلًا لها عن لسان أحد أساتذته الذي غرس فيه قيم المهنة وأخلاقها، مؤكدًا على أن الطبيب يجب أن مسخر لخدمة المريض ومنفعته. فلكل مجال طبيعته وفطرته، التجارة طبيعتها التربح والمهنة العامة أو المسئولية العامة طبيعتها الخدمة دون التربح، من انحرف أداؤه عن ذلك فقد خرج عن فطرة المهنة التي خلق لها ومن أجلها، وأصبح في نظرة العامة منتهكًا لشرفها ومخترقًا لأخلاقياتها. 


وفي مفهوم "تعارض المصالح" conflict of interest ونقيضه، فلسفة نظرية عميقة في علم الاقتصاد وكذلك علم الإدارة العامة، فهو ظاهرة متغيرة تبعًا للسياقات المختلفة ، غير أنني أعتبره البوابة التي يمكننا من خلالها العبور لتحليل قضايا تفاعلات البشر وفق معيارين رئيسيين هما "المنفعة" و"الضرر" . فقد ارتبط هذا المفهوم بمجال أخلاقيات المهنة والوظيفة العامة، واعتنت به مختلف الخبرات الدولية حول العالم لتنظيمه وضبطه لتحقيق الوقاية من انتهازية الموظف العمومي وتربحه من مجال وظيفته العامة. حيث عرف هذا المفهوم بتعريفات مختلفة أهمها أنه "علاقة بين طرفين" خادم ومخدوم ، أو بعبارة أدق "سيد" و"خادم" وأنا شخصيا أفضل استخدام تعبير "السيد "the master لمكانته وأحقية خدمته وأهمية الاخلاص له من قبل الخادم. 


وجدير بالذكر أن قوانين الدول الأوروبية كانت دقيقة حين أطلقت على الموظف العام مصطلح public servant ، فالموظف أو المسئول أو المهني هو خادم للعامة ، مكلف ومفوض بتحقيق أعلى مستوى للخدمة العامة. وفي تحليل مفهوم الخدمة العامة فلسفة ثرية قدمها المحللون الغرب للوقوف عند تعريف مفهوم الخدمة العامة . فالخدمة العامة ليست ذلك المجال الذي يتلقى فيه المواطن خدماته من الحكومة، وإنما هو قيمة أخلاقية يحوي في ثناياه التضحية والايثار والتعاطف والوطنية والتضامن وفق ما أقره منظرو نظرية دوافع الخدمة العامة 1973. فحينما قرر جاك شوفللي الفقيه الفرنسي تعريف مفهوم "الصالح العام"، عرفه ضمن مفهوم الخدمة العامة وتحت مظلته، واذا ما أمعنا النظر في تعريف كلمتين "صالح أو مصلحة" وكلمة "خدمة" سنجد أن كليهما يسير نحو ذات الهدف وهو المنفعة و أن هذا الفقيه كان صاحب نظرة تحليلية عميقة حين ألف كتابه حول المصلحة العامة Le Service Public  عام 2003. ومن أجمل ما قرأت في تحليل مصطلح الخدمة والمصلحة في الكتاب ذاته أن المصلحة هي نتيجة للقوة والقوة متلازمة مع تحقيق المصلحة وحيث أنها تحيل كل واحدة على الأخرى ، وأن سلطة الوظيفة العامة موجودة ليس لتسود ولكنها موجودة لتخدم. 


ومن هذا المنطلق جاء مفهوم" تضارب المصالح" غير مرتبط فقط بمفهوم الفساد لكنه مرتبط بخلل العلاقة بين الطبيب والمريض أو المحامي وموكله أو المسئول الحكومي والمواطن ، إلى آخره من مجالات تفاعل المنتفع مع المقدم للمنفعة، والقصص كثيرة ولا تنتهي. وفي ظل تعدد وقائع ومواقف تعارض المصالح واختراقات أواصر الثقة ضمن ملفات الفساد، تأتي نقطة بيضاء لموقف أحد النبلاء في صفحة سوداء مليئة بالتجاوزات النابعة من انتهازية سلوكيات بعض البشر في مجال خدمة المواطن التي تنتهي بكوارث مأساوية. فالطبيب النبيل الذي آثر على نفسه خدمة الفقراء ورفع مصلحتهم الأساسية عالية في سماء أولوياته الخاصة ، هو بحق نموذج لأخلاقيات المهنة ، هذا الطبيب الذي صان شرف المهنة وتحلى بأخلاقيات الخدمة العامة وتمثيل مصالح أحوج الطبقات، لا أعتقد أن أي باحث أو متخصص في مجال أخلاقيات الإدارة أن سيمنع نفسه عن التفكير في هذا النموذج و تخصيص مساحة له من التأمل والدراسه. فهو مدرسة للإنسانية والقيم ، وهو أحد الأمثلة في العالم الذي أظهر مفهوم "توافق المصالح convergence of interest " للنور في علم الإدارة عامة وعلم تنظيم تضارب المصالح على وجه التحديد. 


والحديث عن هذه الظاهرة لا ينتهي ، فهو مفهوم متداخل ويحوي في طياته معرفة متعددة، من حق المواطن أن يعي أبعاده وأشكاله وأنماطه لأنه طرف أساسي في علاقة تضارب المصالح نتيجة تفاعله مع الموظف الحكومي في مواقف متعددة. وللحديث عن هذا المفهوم بقية...