هو ...عامل ماهر يعمل في الخارج بأجر لم يحلم به ، يتفنن في عمله ، فيجذب انتباه عملائه ، ويشعر بسعادة وقتية لأنه كسر وحدته وحصل على تعاطف وتقدير . ولكن ذلك لا يكفى احتياجه الغلاب للشفقة ولو كانت عاجزة ، فهو لعيب ما يحس بيأس دائم يخلق مزاجا سوداويا ، فيركز على كل ما يراه سلبيا ، يبالغ فيه ، ويجتر مرارته ، فإذا ما ضج بالتعاسة انطلق يشكو لمن حوله . ومنهم من يسايره أو من يلفظه أو من يتحمله لفترة ثم ينفض عنه ، رغم أنه كان حريصا على مجاملتهم وخدمتهم وكأنما يريد أن يخجلهم ليسمعونه .... يعود إلى نفسه يتفجر بالثورة ، فيجد نفسه وحيدا ملولا في بلدة هادئة ، لا تلهيه كمدن أخرى بسهراتها وأمسياتها وضجيجها ، فيهرب من عمله ، ويعود لمصر ، وتنهار طموحاته المالية ، وهو لا يدرى أنه ربما كان يهرب من نفسه.
هي ... أرملة لا تتكسب رغم موهبتها بالقدر الكافي من عملها ، افتقدت الحنان بوفاة زوجها والجاذبية الشكلية بمرور سنوات العمر ، فلا تشعر بأمان أو بأمل في مستقبل تواجهه بمفردها ، فتعوض الخوف والحرمان بحب متملك لأسرتها يعزلهم عن الآخرين ليوجههم في مسارات تختارها بعناية ، أو بسيطرة بأي ثمن على الآخرين ، عسى ممارسة القوة تعوضها عن الجاذبية المفقودة والثراء بعيد المنال ، في بداية التعارف تجذب الانتباه بروح مرحة وتعاطف مصطنع وفكاهات معادة ترويها بذكاء تمهيدا لعرض مواهبها وأنشطتها وجذب الاهتمام والإعجاب . لكن ذلك لا يلهيها عندما تختلي إلى نفسها وتجتر مرارتها ، فيدفعها شعورها بالملل والكآبة إلى الشكوى للآخرين ... ينفضون عنها بمرور الوقت ، فتتزايد وحدتها ، وتدور لاهثة في الدائرة المفرغة ، وهى لا تدرى أنها تهرب من نفسها.
أين المفر إذن ؟ وهل يريد أحدهما حقيقة معرفة الإجابة ؟ . لا أعتقد ذلك ، وإلا لما استمرا في بناء التعاسة في الداخل ونشر الشقاء حولهما دون نهاية . بل أنهما لا يريدان رؤية حقيقة ما بداخلهما ويخافان مواجهة المنتقدين ، حتى لو كان النقد عارضا ، فيدافعان عن مواقفهما بإصرار يرى التغيير الممكن هزيمة وضعفا، حتى ولو كان مفتاح الأمل و قبوله دليل قوة وأمان.
إننا لا نختار كل ما تبلينا به الدنيا ، سواء كان عجزا اوسنا أو مرضا أو فقرا أحيانا ، ولكننا بالقطع نختار مواقفنا تجاهها . لقد تخير كل منهما ألا يرى حقيقة مشكلته ، وتصور أنه لو أتقن دور الضحية الجاحدة سيعوضه الآخرون بما احتاجه وسيعفونه من المسؤولية والعطاء ، شفقة أو ذنبا . ولم ير أي منهما أن استمرار احتياجه دليل فشل الاختيار ، وانه حتى لو حصل على بعض فوائد عارضة من آخرين ، فان نفور من يفهمونه يملأ لا وعيه بمزيد من الاحتياج والشك في الذات ، بل إن هؤلاء لا يرون فيه قوة يتصورها في نفسه بل ضعفا وشقاء ، وربما جهلا وشرورا.
هل يمكننا إذن تخيل آي اختيار أفضل ؟ وماذا يحدث لو تحمل أحدهما ولو مرة آلما بنا ء يدرك من خلاله حقيقة مشكلته وفشل حلوله على أرض الواقع ، ويسعى للإفادة من مواهبه بنضج لا يكون على حساب الآخرين ؟ أليس ذلك الألم العارض في النهاية على قسوته أوفر من الآلام والفشل طيل العمر ؟ وهل حقا لا يوجد في الدنيا ما يفيد سوى الثروة والجمال والسلطة ؟ وماذا إذن عن العطاء والإبداع والسمو الروحي والنفسي وعمق الإدراك والشعور والتسليم بإرادة الله بعد بذل المستطاع ؟
الإجابة تعتمد على الاختيار.