الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد صقر يكتب: ذكريات وتطور المدنية التى حولنا

صدى البلد


تراودني الفكرة كلما تأملتُ في العلاقة بين الوقت المتاح للتأمل والمعاني المتشكلة من خلاله. على سبيل المثال، حين أتأمل في ظروف الجيل السابق لجيلنا (أو حتى في سنين نشأتنا المبكرة)، أجدهم قد امتلكوا وقتًا أكبر للتأمل في كل الحكايا حولهم. في الماضي، عندما تريد أنت الذهاب لمكان قريب يبعد عنك مسافة سبعة منازل مثلًا، قد يحدث أن تلتقي بالعديد من الجيران كبارًا وصغارًا، مشاة وواقفين. يهيئ بطء الحياة حينها حدوث التقاء سواءً بالعين أو بالتحية أو بالكلام. نتيجةً لهذا الحادث العابر والمتكرر، تتشكل الروابط الاجتماعية والعلاقات بين أفراد الحي.


ونتيجةً لهذا الأمر أيضًا، يرتبط وعي الماشي بالزمان والمكان بشكلٍ أكثر وضوحًا. يصبح للأصوات المتعددة والروائح المختلفة حضورٌ أكبر أثناء الحدث، وبالتالي حضورًا أكبر في تخيله لاحقًا. أعتقد أن هذا هو ما يجعل الكثير من قصص أجدادنا عن ماضيهم محكية دومًا بالإشارة للزمان والمكان، إذ أن لحضور الجسد والعقل معًا أثناء أقصر الرحلات وقعٌ وتأثيرٌ لا يستهان بهما.


لو سألتك الآن: هل تَذكُر موقفًا معينًا حدث لك في صغرك أثناء ذهابك لبقالة الحي؟ أن تعثر على ريالٍ أو نصف ريالٍ على الأرض، أو أن يوشك قائد سيارة متهور على الاصطدام بك أثناء مشيك؟ أظننا جميعًا نمتلك مثل هذه القصص، أو على الأقل من نشأ في أحياء هيأت لمثل أسلوب الحياة هذا. لكن في هذه الأيام، بعد امتلاكي للسيارة وتوظفي، صارت ذكريات الرحلات أشد تسارعًا وأسرع تلاشيًا. بل لعل أغلب ما يعلق في الذاكرة من آثارها مرتبطٌ بتفاصيل السيارة نفسها، كقائمة الأغاني المسموعة والطرق المسلوكة بل وحتى ارتباط الرحلة  بالدوائر المعقدة التي أجد نفسي فيها. وعندما أقود داخل الحيّ يكون التركيزُ على. الوصول للبيتِ والسلامُ إن تلاقت أعيننا مع ساكنِ ذلك البيتِ الذي نراهُ كلّ يوم ولا نعلمُ أسماءَ بعضنا.


وبالإضافة لكل ذلك، لم تعد ذات الروابط الاجتماعية موجودةً بين الجيران. لو أنني عدتُ ماشيًا في نفس رحلات طفولتي وقابلتُ ذات الأشخاص الذين كنت أقابلهم، لا يعني ذلك أن لقاءاتنا ستكون نفسها. نجم ذلك عما قامت به شبكات التواصل من إعادة صياغة لمفاهيمنا حول الوقت والقرب والبعد والأهميات. بعبارةٍ أخرى، صار تخالطنا الاجتماعي متمحورًا بشكلٍ أساسي حول ما يدور داخل هذه الشبكات أو ما يُذاع فيها، ولم يعد للحدث الاجتماعي المجاور أهميةً إلا بقدر ما يرتبط بقيم شبكات التواصل. اختفى أبو علي الذي سرقوا بقالته من أذهاننا واحتل مكانه فلان الذي أهدى زوجته سيارة فيراري، بالرغم من أن البقالة قد تكون على بعد بضع دقائق مشيًا.


ونستطيع أيضًا القول بأن الأحداث نفسها تُرى بشكل مختلف. فأثناء المشي، قد تُركز على ما حولك ومن حولك وتتأمل تفاصيل المنازل وتقترب من الأشخاص، ويلعب كل هذا التكثيف الحسي دورًا في إشعارك أن الحياة بطيئة جدًا. ولذا ليس من المستغرب أن تلف الحي أكثر من مرةٍ وجارك مثلًا ما يزال يسقي أشجار منزله الخارجية، إذ في كل مرة تلف فيها تحضر التفاصيل والأصوات بما يجعل الذهن متقدًا لوضعها في صورةٍ أكبر.

لا نحتاج لهذا النوع من التركيز والتكثيف أثناء قيادة السيارة، إذ يصبح المكان المقصود أولويةً قد تمحي ما سواها. ومن الممكن أنّنا لم نعتد المشي عند في كبرنا لأننا اعتدنا على ارتباط غاياتنا وحاجياتنا بمسافات أبعد، وبالتالي صارت السيارة ضرورة لا بد منها لتقريب كل ما هو بعيد والحصول على ما لا يمكن الحصول عليه ضمن الحي القديم.


أقارن كل هذه الاختلافات بما أشعر به أثناء سفري ومحاولاتي لاستكشاف كل ما حولي من مطاعم وبقالات ومقاهي من خلال المشي إليها واستكشاف تفاصيل دروبها. عدت خلال الفترة الماضية لعادةِ المشي حول البيت، فأصبحَتُ الوجوه تتكرر وعادت لي ذكريات تِلكَ المُدنُ والقرى التي كنتُ أزورها ولو لساعات اتمشى بين زرانيقها ويتكرر لديّ مشاهدٌ لم أرها مِن قبْل وأتساؤلُ دائمًا عِندما أعود لِتلكَ المدينةِ بعدَ عدةِ سنوات، هل سأرى ذلك الطباخ الذي صنعَ لِي ألذّ طبقِ بيضٍ أكلته؟ نعمَ سيكونُ هناكَ كما حصلَ عندما عُدتُ لمدينة براغ في دولةِ التشيك. وعندما أصبحنا جميعنًا ملائمينَ منازلنا أصبحَ ذلكِ العالمُ الخارجّيُ بعيدًا ليُصبحَ جيراننا أقربُ إلينا وأصبحَ. ذلكَ المساءُ مليئًا بالوجوه المعتادة وتقارَبتْ انجازاتنا بين بعضنا، فأصبحنا نُفِكّرُ في ذلكَ القريب الذي رأيناه بالأمسِ وقبلَهُ لترتفعَ أيدينا بالسلام مفكرًا—سأراهُ يومًا ما عِندما تعودُ الحياة ولن يعودَ الحاجِزُ موجودًا. فهذا ماتعودتُ أن تِلكَ القُرى البعيدة بين براكينِ إل سلفادور أو وديانِ المكسيك، لتَعودَ حياتُنا من حياةِ المدينة التي اعتادَ عليها جِيلنا لحياةِ القرى الجميلة التي اعتادَ آجدادنا العيشَ بها.

فكَما أخذناَ التطورُ ليجعلَ تفكيرنَا فيما هُوَ بعيدٌ أقرب، آصبحَ ماهو قريبٌ أقربَ لِترى ابتسامةَ من يمشي بجانبكِ وترى تفاصيلَ الحياة.

 لعل هذا الآمر آخذٌ في التطور شيئًا فشيئًا لدينا، حيث تنشأ المرافق ضمن تشابك الأحياء السكنية وتنتفي الحاجة -أحيانًا- لاستقلال السيارة نحوها.  تفتتح الحياة من حولنا أثناء المشي، ونستطيع رؤية الأمور بشكل أقرب. والأهم من ذلك، نستطيع رؤية ابتسامات من حولنا بكل تفاصيلها.