الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أوجلان وجدلية المشكلة والحل


عقد من الزمن مرّ وما زالت الفوضى تضرب بكل قوتها في المنطقة مخلفةً دمارًا هائلًا في الانسان والمجتمع من جميع النواحي الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية والأكثر في مسألة الولاء والانتماء.


حتى الآن صدرت الكثير من الكتابات والمقالات والدراسات حول نظرية الفوضى التي نعيشها مقرنة إياها بالتدخلات الدولية والإقليمية في المنطقة، وذلك لتقسيمها وتشتيتها وفق مشروع أو مشاريع غربية تسعى للنيل من شعوب المنطقة وبلدانها.


هذه المقاربات من الفوضى جعلت ممن يدعون الثقافة أو النخبة المثقفة عندنا ترى أن الخطر المحدق بالمنطقة يأتي من الخارج الغربي والذي ينبغي أن نعترضه ونعارضه مهما كلف ذلك من ثمن.



ونفس الوقت يتم تأجيل جميع القضايا والمشاكل حتى إشعار آخر ريثما يتم الانتهاء من صدّ هذه التدخلات والانتهاء منها، ربما فقط يمكننا وبعد استراحة محارب أن نهتم للمعضلات الداخلية التي نعاني منها وذلك إن وجدت طبعًا.


وعدم تحصين الداخل من جميع النواحي والاهتمام فقط للتصدي لأي مؤامرة أو تدخلات خارجية، بكل تأكيد لن تجلب معها الحلول النهائية لأي معضلة نعاني منها، حيث إن القوة الداخلية لأي جسد هو الحصن المنيع وخندق الدفاع الأول لأي هجمات خارجية تتم على أي كائن كان، إن كان إنسانا أو دولة أو مجتمعا أو مؤسسة، لكن إيلاء الاهتمام فقط بالهجمات الخارجية ربما يجعل الإنسان يستنزف كل ما لديه موهمًا نفسه بالممانعة والتصدي والجهوزية لأي طارئ كان، لكن على أرض الواقع نرى ما يحدث ونعيشه هو العكس وهي أننا نحلم بأن تطأ أقدامنا أرض من يدبّر لنا المؤامرة، وذلك وفق الدلالات التالية:

1 – منذ قرن من الزمن تقريبا ونحن نلعن من قسم المنطقة من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والأمريكي والإيطالي وغيرهم من المستعمرين، لكننا في نفس الوقت نعمل كل ما في وسعنا للوصول لدول الاستعمار تلك إما للدراسة أو نيل شهادة أو حتى الإقامة وأخذ الجنسية منها.

2 – نلعن الغرب الذي رسم حدود وخطوط دولنا السياسية وصدرها لنا على أنها الفردوس التي لا غنى عنها والدواء لكل متعطش للحرية والكرامة والسيادة الوطنية، لكننا في نفس الوقت نسعى بكل ما لدينا للهروب من هذا الوطن والفردوس لدول الاستعمار الذي قسم منطقتنا إلى مزارع وحدائق خلفية لمصالحهم.

3 – نلعن الغرب الذي شكل جماعة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي لزرع الفتنة بين شعوب المنطقة وتأليبها على بعضها البعض، لكننا من أكثر المدافعين عنها والمنضمين لها بأي اسم كان ونحمل السلاح لهدم الدولة والوطن المقدس من أجل الاستحواذ على السلطة.

4 – نلعن الغرب الذي يصدر لنا مؤامرة تقسيم المنطقة في راهننا وأنه سبب الشقاء والحرمان والفقر والاقتتال فيما بيننا، لكننا بنفس الوقت نهرع لعنده متوسلين كي يجد لنا حلًا للمعضلات والمشاكل التي نعيشها. وهذا ما يحدث من خلال المبعوثين الامميين إن كان في سوريا أو اليمن أو ليبيا أو لبنان وغيرهم من الدول.


حالة من الفصام أو ازدواجية الشخصية نعيشها بنفس الوقت وهذا ما يؤدي بنا إلى أننا لا نعرف ماذا نريد وننتظر ما سيعطيه لنا ذاك الغرب المستعمر.


نرى أن الغرب هو سبب المشاكل والقضايا التي نعاني منها ولكننا في نفس الوقت ننظر إليه أنه هو صاحب الحل الوحيد فقط لأي مشكلة نعانيها، أي ما أن المشكلة أتت من الخارج فهذا لا بد يحيلنا إلى أن نعتقد أن الحل أيضًا يكمن في الخارج.


على ما أعتقد أن منطقنا هذا هو سبب ما نعانيه من حالة في التشتت الفكري غير المنطقي لمجمل ما يعترضنا من خيبات أمل في أي شيء نواجهه ولا نحسن معالجته، وما تعيشه الشعوب ما هو إلا انعكاس واقعي لشخصية وسلوك حكامنا في المنطقة لا أكثر أو كما قيل: "الناس على دين ملوكهم أو حكامهم"، فكيفما أن حكامنا لا حول لهم ولا قوة ويعيشون الفوضى كما نحن، حينها النتيجة التي سنتوصل إليها، هي مزيد من الفوضى ومزيد من التشتت والمشاكل التي ستتفاقم أكثر مما قبل.


هذا ما نلاحظه أو سبب ما نعيشه الآن من تفاقم حالة الفوضى وعدم إيجاد الحلول لما نعانيه من الكثير من المشاكل التي تعصف بنا، إذ إن معظم الحلول الموضوعة حتى الآن لم تتجاوز التنظير وفي أحسن أحوالها تكون الحلول هي بالعودة للماضي والبحث عن المجد هناك ووضع الرأس بين الرمال لعدم رؤية المستقبل.


ثمة حلان نعيشهما منذ القرن الماضي وحتى الآن لأي مشكلة تعيشها المنطقة وأن كِلا الحلين لم يجلبنا الحل وحتى إن كان في الحدِ الأدنى منه، ويمكن تلخيصهما كالتالي:


الأول: إما أن يكون "الإسلام هو الحل"، وعليه تكفير أي أحد يعارض هذا المشروع والعودة بالإنسان إلى الماضي على الأقل للحفاظ على ما تبقى من وجود وثقافة يمكن حمايتها حتى يحين وعد الله، أو أن يكون الحل في "أمة عربية واحدة" والتوجه العروبي، وكل من يعارضه هو خائن وعميل ينبغي التخلص منه مهما كان الثمن كي لا يوهن من عزيمة الأمة والصراع مع العدو الذي سنرميه في البحر، مع أن كِلا المنطقين لا يختلفان عن بعضهما البعض سوى بالشعارات إن كانت دينية أو قومجية عصبوية وكِلاهما يدعوا إلى السلفية إن كانت دينية أو قومجية، وما زال هذان التياران هما الممسكان بزمام الأمور نوعًا ما.


الثاني: المعاكس لهذين التيارين شكلًا ولكن لا يختلف عنهما مضمونًا وهم من ينادون بالانفتاح على الغرب والتطبيع الكامل وقبول الثقافة الغربية على أنها المهيمنة والمتطورة بعكس ثقافتنا التي عفا عنها الزمن وهي رجعية وسبب البلاء الذي نعانيه.


كِلا الطرفين إن كان الديني والقومجي من طرف أو الليبرالي من طرف آخر لم يقدما أية حلول لأية مشكلة نعاني منها منذ أكثر من خمسة عقود، لأنهما لم يفكرا بحل جديد ولم يتجاوزا الأطر الموضوعة بالأساس من قبل المستشرقين والمثقفين الغرب.


عدم رؤية المشكلة أو نفي المشاكل والتقرب وكأنه لا مشاكل نعاني منها ربما يكون هو بحد ذاته المصيبة الكبرى التي نعاني منها والتي تسبب لنا كل هذا الوهن الفكري والتشتت، لأن الاعتراف بوجود المشكلة بحد ذاته يعتبر الخطوة الأولى نحو حلها، لكن عدم الاعتراف بوجود المشكلة، يولّد معه عشرات المشاكل الأخرى التي الكل بغنى عنها.


كمثال على ذلك هي حالة أردوغان حينما قال إنَّ "حلّ القضية الكردية يكمن في ديار بكر"، حينها ساد الاستقرار بعموم تركيا، وحاول الطرفان من عبد الله أوجلان من طرف والحكومة التركية من طرف آخر على الحوار من أجل إيجاد حل لكل القضايا والمشاكل التي كان الطرفان يعانيان منها.


ولكن بعد ذلك حينما أنكر أردوغان وجود قضية ومشكلة كردية في تركيا، استأنف الصراع ما بين الكرد والدولة التركية والذي ما زال مستمرًا وبعنفٍ كبير، مما زاد من حِدة الاشتباكات والاقتتال وحصد المزيد من الضحايا من الطرفين.


وكذلك النظام السوري ورغم ما وصلت إليه الأمور فيها، إلا أنه إلى الآن لا يريد الاعتراف بشيء اسمه كرد في سوريا سوى أنهم ضيوف لا أكثر، ونفس الحال في ايران أيضًا، لذلك نرى عند هذه الأطراف أن أفضل حل عندهم هو الحل الأمني والعسكري ولا غير ذلك.


التفكير - مثلما يقال – خارج الصندوق ربما يكون هو أحد الطرق التي ستخرجنا مما نحن فيه ومما نعيشه من أزمات من جميع النواحي، وهذا ما عمد إليه المفكر عبد الله أوجلان حينما تناول القضية الكردية ليس فقط كمشكلة تخص الكرد وحدهم، بقدر ما هي مشكلة إقليمية ودولية ولكن أساس الحل فيها يبدأ من الداخل، هكذا فكر أوجلان بمقاربته للقضية الكردية ولم يرَ أن الحل فقط يكمن في إقامة دولة كردية قوموية خاصة بالكرد، لأنه يرى أن سبب المشاكل هو ما نجم عن تشكيل دول عديدة في المنطقة بعيد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وإن عدم رؤية تشكل هذا العدد الهائل من الدول على بعقة جغرافية على أنه مشكلة، يعتبر مشكلة بخد ذاتها.


وللتخلص من المعرفة المسبقة الصنع من قبل الغرب والمستشرقين على أنه لا بد أن يكون هناك شعب حتى يستحق دولة، وبما أن الكرد ليسوا بشعب فهذا يعني أنهم لا يستحقون دولة، وتم الخلط ما بين الدولة والوطن والسلطة والأمة والقوم والحدود والسيادة الوطنية والمواطنة، حتى تحولت هذه المصطلحات إلى للُبَّان يتم مضغها بين الحين والآخر لتهييج الشعوب أو إسكاتها.


من هنا بدأ المفكر أوجلان ثورته وصراعه الداخلي مع إعلان ثورة ذهنية تنقي شخصية الكرد من الشوائب الفكرية الغريبة عن المنطقة من جهة، وثورته وصراعه الخارجي مع الدولة التركية التي لا تريد الاعتراف بالوجود الكردي كشعب له كل الحق في أن يعيش على أرضه بثقافته ولغته وكرامته وليس مستسلمًا خنوعًا.


التفكير خارج الصندوق الذي صنعته ووضعته القوى المهيمنة الناهبة وفق المعلومات والمصطلحات التي تم تقديمها لنا على أنه ضمنها فقط ينبغي البحث عن أية حل لأي مشكلة كانت، وأي شخص يفكر خارجها سيكون ملعون وينبغي التخلص منه بأي شكل كان.


ونتيجة البحث في أساس المشكلة الكردية وتحليل الأسباب النفسية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، رأى المفكر أوجلان أن الحل ينبغي أن يبدأ من الداخل وبنفس الوقت التصدي للهجمات الخارجية التي تتم من قبل القوى المحتلة لجغرافية كردستان.


ولكن لم يتوقف أوجلان عند هذه النقطة، بل رأى أن المشكلة الكردية مرتبطة بشكل وثيق مع مشكلة العرب والآشور والتركمان والأرمن وغيرهم في عموم المنطقة. وأنه لا يمكن حل مشكلة الكرد من دون حل القضايا التي تعاني منها شعوب المنطقة الأخرى وهذا نابع من حالة الاندماج الثقافي والاجتماعي لجميع شعوب المنطقة مع بعضها البعض، أم الحل الإقصائي والاستعلائي لن يكون الحل الدائم بقدر ما سيولد معه عشرات المشاكل الأخرى.


في مناسبة مرور السنة الثانية والعشرين لاعتقال أوجلان والدخول في السنة الثالثة والعشرين وهو ما زال رهين الاعتقال ليس لأنه يطالب بحقوق الكرد فقط بقدر ما هو أن أوجلان فكر خارج الصندوق الذي وضعته ورسمته قوى الهيمنة العالمية.


أن تكون صاحب فكر في هذا الوقت هذا يعني لأنك تشكل خطرًا على تلك القوى التي سمحت فقط لنفسها أن تفكر وتضع الحلول وعلى الجميع أن يطبق وينفذ ما يؤمر به، وإلا ستكون العاقبة وخيمة.



وربما يكمن سبب الصمت الإقليمي والدولي على اعتقال المفكر أوجلان في هذه النقطة بالإضافة للأفكار والحلول التي طرحها لتجاوز الأزمات التي تعاني منها المنطقة عمومًا والشعوب بنفس الوقت.


القوى الغربية ترى الحل في أن يكون "الكل ضد الكل" على أساس الفوضى الخلاقة لإعادة تشكيل المنطقة من جديد وفق مشاريعهم ومخططاتهم، بينما أوجلان يرى أن الحل يكمن في أن يكون "الكل مع الكل" على أساس أخوة الشعوب والإنسانية والتعيش السلمي ما بين جميع شعوب المنطقة وثقافاتها لبناء المجتمع والإنسان الحر على أساس التكامل الإقليمي لبناء الشرق الأوسط الديمقراطي بديلًا عن الشرق الأوسط الكبير/الجديد.


جدلية الحل والمشكلة عن أوجلان تم وضع أسس أو آلية الحل لها وعدم الدخول في ثنائية إما هذا أو ذاك أفرزت معها الكثير من التساؤلات التي تحث الانسان على التفكير من أجل إيجاد حلول للكم الهائل من القضايا التي تعاني منها المنطقة، وأن أساس المشاكل التي نعانيها أنها بنيوية وفكرية وسياسية واجتماعية وثقافية أكثر ما هي اقتصادية فقط.


الحل المجتمعي هو أساس جميع الحلول لأي مشكلة تعاني منها الشعوب أينما كانت ومنها يمكن السير في حل جميع المشاكل الأخرى.


تأمين احتياجات المجتمع السياسية والدفاعية والثقافية منها يبدأ حل المعضلات الأخرى ولا يمكن ترك المجتمع من دول السياسة لأنه حينها سيتحول المجتمع إلى مجتمع نمطي لا حول له ولا قوة وسيكون فريسة وأرضية خصبة لأية تدخلات أو حلول خارجية. 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط