الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المثقف الحق قادر على تغيير المجتمع

يظل الدور الأهم للمثقف، من وجهة نظرنا بالطبع، هو النظر العميق فيما هو سائد من أفكار في المجتمع الذي يقيم به ويعيش بين أفراده، ويفرز هذه الأفكار فرزا دقيقا، فيعمل على تثبيت تلك الصالحة وخلع تلك الفاسدة من رؤوس أبناء المجتمع، هذا الذي هو في حاجة إلى جهد جهيد، فكما هو معلوم، فمن الصعوبة بمكان صرف الناس عما يعتقدون من أفكار مهما كانت تلك الأفكار بالية، ومهما كان عجزها في أن تسير على قدمين، فيكفيها فقط أنها جزء من المكون الثقافي لمجتمع من المجتمعات، هذا الذي يمنحها الحياة ويعطيها القوة.

وأظل أعلن أنه لا يمكن أن يقوم المثقف الحق بدوره، ما لم تفتح له أبواب وسائل الإعلام المختلفة وخاصة المؤثر منها، وعلى وجه التحديد قنوات التليفزيون التي تحظى بمشاهدة جماهيرية، وأبواب الصحف الكبرى التي يحرص القراء على متابعتها، هذا الذي لا نجده بالشكل الكافي في إعلامنا العربي على وجه العموم وإعلامنا المصري على وجه الخصوص، والذي يخصص في خريطته الممتدة على مدار أربع وعشرين ساعة القدر اليسير للمثقفين الجادين، إن خصص من الأساس، في مقابل تخصيصه لمساحات هائلة للتافه من البرامج والمنحط من الأعمال الدرامية، ذلك الذي ليس في حاجة إلى دليل عليه.

ومما لا شك فيه أن هناك قضايا قومية تحتاج لأن يقوم على شرحها المتخصصون في مجالها، ومنها على سبيل المثال قضية سد النهضة التي تمثل قضية وجود بالنسبة لأبناء الشعب المصري، ليس هذا الجيل فحسب،  بل كل الأجيال على مر التاريخ، وكما هو مشاهد فإن المساحة التي يتم تخصيصها لهؤلاء المتخصصين في هذا المجال محدودة للغاية، ذلك الذي يدفع الشعب المصري للإنصات لكل من هب ودب ولكل من يقوم "بعمل فيديو" من هؤلاء "اليوتيوبر" والذين يقومون بعملية قص ولصق وترقيع لهذه الفيديوهات وهو ما يجعل المواطن في حيرة من أمره، في مثل هكذا قضية هي بالنسبة للمصريين قضية حياة أو موت، وما ذلك إلا لندرة المواد الإعلامية الجادة التي تتناول هذه القضية بأبعادها المختلفة، بعيدا عن الشق العسكري الذي يمكن أن يتم اللجوء إليه، فهذا الجانب لا يقدر على تحليله إلا صاحب القرار الذي تُفْرَد أمامه كافة المعلومات، ويتعرف على كامل الموقف، ويدرس كل الاحتمالات، ومن ثم يتعامل بدقة متناهية مع كل أمر يصدر عنه وكل قرار يتخذه.

ولقد جمعني، أخيرا بمقر إقامتي بالنمسا، لقاء مع الصديق الدكتور عصام أبو السباع، الذي يقوم بأبحاث بجامعة المدينة التي أقيم بها جامعة ليوبن، وهو أستاذ مساعد بكلية العلوم بجامعة المنيا، متخصص في الجيولوجيا وله العديد من الأبحاث المنشورة في الدورات العلمية العالمية، وفي هذه الجلسة أكد لي أنه في حال تم ربط البحث العلمي المتوفر في الجامعات المصرية بالمجتمع فإنه سيخل العديد من المشكلات، وشرح، في تلك الجلسة أيضا، بتفصيل كبير إمكان كيفية الاستفادة من المياه الجوفية في مصر، مؤكدا أن هناك دراسات في الجامعات المصرية قام عليها أساتذة كبار يمكن الاستفادة منها بشكل كبير، ليس فقط لو، لا قدر الله، وقع،  ولن يقع، ضرر من سد النهضة، بل يمكن الاستفادة منها في تعمير ملايين الأفدنة مستقبلا، وهو ما جعلني أشعر بالاطمئنان مرة وبزيادة الثقة فيما تعلنه القيادة السياسية متمثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي من خطط لزيادة الرقعة الزراعية بإضافة ملايين الأفدنة مرة أخرى، وهنا أتساءل: لماذا لا يخصص لأساتذة الجيولوجيا مساحات في البرامج التليفزيونية؟ هذه التي لو لم يشاهدهم إلا النخبة التي يمكنها أن تنشر ما يشرحه هؤلاء الأساتذة في مقالات مبسطة تناسب القارئ بمستوياته المتعددة بالصحف المختلفة.

وعلى جانب آخر أراقب عن كثب ما يقوم به تيار العقلانيين المصري الذي يسعى إلى تغليب الفكر النقدي وإعلاء قيمة العقل، فتعرفت أخيرا في هذا المضمار على جهود الأستاذ الدكتور حسن حماد أستاذ الفلسفة المعاصرة وعلم الجمال والعميد الأسبق لكلية آداب الزقازيق وأستاذ كرسي الفلسفة لليونسكو فرع الزقازيق، والذي لا يألُ جهدا في فتح أعين الناس على تلك الأوهام والتي تعيق حركة المجتمع المصري، هذا الذي ذكرني بما قاله الفيلسوف الإسكتلندي الكبير ديفيد هيوم في كتاب الموتى حينما ذكر: مهلا أي شارون الطيب فكل ما حاولته هو أن أفتح أعين الناس على بعض الخرافات.
ولعله من نافلة القول التأكيد على أنه ما من أمة يمكن لها أن تنهض ما لم تعلي من قيمة العقل، وما لم تنبذ الخرافات، وما لم تضع كل موروثها الذي شكل عقلها على مائدة البحث والفحص والتشريح، ولعل أمتنا العربية الإسلامية هي الأمة الأولى الآن التي هي في حاجة ملحة للقيام بهذا الدور الذي خطى بعض المفكرين العرب خطوات فيه، فوجدنا محمد عابد الجابري ومحمد أركون من المغرب، كما وجدنا تجديد الفكر العربي عن زكي نجيب محمود وغير هؤلاء المفكرين الذين ننظم حسن حماد في عقدهم الفريد، هذا العقد الذي بدون إفساح المجال لمفكريه فلا أمل يرجى في إعادة صياغة العقل العربي صياغة تناسب الحداثة وتنظم الأمة العربية في منظومة عالم اليوم التي بيننا وبينها مساحات شاسعة.

نعم لقد انتفت من عالم اليوم صورة العالِم والمثقف الموسوعي، فلم نعد نشاهد العالم الفلكي والطبيب البارع والفيلسوف النسقي والرياضي الفذ في شخص واحد كما كان الحال في الأزمان الماضية، الشيخ الرئيس ابن سينا مثالا، وذلك لأن التخصص الدقيق يأخذ من عالِم اليوم جل وقته إن لم يكن كله، ولكننا لم نعدم في عالم اليوم من يقوم بدوره التثقيفي التنويري لمجتمعه وهو متخصص في علم دقيق، ولعل الأستاذ الدكتور جمال مصطفى السعيد أستاذ جراحة الأورام بجامعة القاهرة والذي هو أحد كبار هذا التخصص في العالم خير نموذج مصري على ذلك، فالرجل، بجانب دوره الرائع في تخصصه، والذي لبراعته فيه يتم استضافته لرئاسة مؤتمرات عالمية بالدول الأوروبية المتقدمة علميا، ومحكما للأبحاث الطبية في تخصصه، وهذا يجعلنا، نحن المصريين بالخارج نفخر به ونزهو، فالرجل بجانب ذلك يعقد صالونا ثقافيا باسم "صالون الجراح الثقافي" يستضيف به كبار المثقفين المصريين في مختلف المجالات، ليناقش العديد من القضايا التي تشغل الرأي العام المصري، ويقدم فيها الحلول المناسبة على لسان المتخصصين، ذلك الذي نعيد ونكرر أنه في حاجة إلى فتح أبواب وسائل الإعلام له، للاستفادة القصوى من هذا النشاط الثقافي، لقد كان لي شرف المشاركة في هذا الصالون والذي أزعم أنه في حال تم نشر لقاءاته على نطاق واسع فإنه سيساهم بسهم هام في نشر الثقافة الرصينة في المجتمع المصري الذي يعاني من انتشار التافه من الثقافة والرقيع من الفن، والمنحط من الفكر.



 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط