الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد داود: تحويل القبلة درس فى فقه المواجهة الفكرية

الدكتور محمد داود
الدكتور محمد داود

نشر الدكتور محمد داود، المفكر الإسلامي، والأستاذ بجامعة قناة السويس، مقالا جديدا عبر صفحته بفيسبوك، بعنوان "تحويل القبلة درس فى فقه المواجهة الفكرية".

 

وقال الدكتور محمد داود في مقاله: “اختار الله من تاريخ الدعوة ومن حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف وأحداثًا أنزل فيها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، وهذا لتظل العبرة والموعظة باقية دائمة، وليتعلم المسلمون الدرس إذا ما تعرضوا لمثل هذه المواقف".

 

وما أحوج أمة الإسلام فى ظروفها المعاصرة، وهى تقع تحت تأثير حرب فكرية - ما أحوجها إلى إعادة القراءة الفكرية لدرس تحويل القبلة؛ لنتعلم فقه المواجهة الفكرية.

 

إن صناعة الزيف مسألة قديمة حديثة، وإن اختلفت الآليات والوسائل، فلكل عصر وسائله وآلياته، لكن الجوهر فى المسألة يكاد يكون واحدًا، حيث تكون صناعة الزيف قائمة على تلبيس الحق بالباطل، وبإنكار الحقائق، والتشكيك الدائم، والتحريف والتصحيف، والأسئلة الخاطئة، وأسلوب التعجيز، واختلاق التهم والمشاكل المفتعلة، ... ونحو ذلك من أمور.

 

وبتدبر آيات سورة البقرة بشأن اليهود ومكرهم وعنادهم وإصرارهم على صناعة الزيف بكل سبيل، وكيف تكون المواجهة الفكرية؟ تظهر لنا الملامح الآتية:

-  أهمية معرفة الخصم والوقوف على حقيقة فكره

تكشف آيات سورة البقرة طبيعة الخصم أولًا، وهذا أساسٌ مهم يوجهنا إليه القرآن فى إطار المواجهات الفكرية مع الخصوم، حيث ينبغى- أولًا- أن نقف على حقيقة فكر الخصوم ونتعرف على دوافعهم، فهذا يُيسر علينا اختيار الحجة البالغة معهم. وتحت هذا المعنى (معرفة الخصوم) تُحدِّثُنا آيات سورة البقرة بعد أن ذكَّرت اليهود بنعم الله عليهم فى مقابل جحودهم وعصيانهم، وهذه أهم الملامح الفكرية للمشروع اليهودى: صناعة الزيف، والتى تكشف عن طبائعهم فى معاملة الآخر:

1-  تلبيس الحق بالباطل وكتمان الحق، قال تعالى ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة: 42).

2-  لجوء اليهود إلى أسلوب التعجيز للأنبياء وإلى الأسئلة الخاطئة، من ذلك سؤالهم نبى الله موسى عليه السلام: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً ﴾ (البقرة: 55).

3-    تبديل القول وتحريفه، قال تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ (البقرة: 59).

وقوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ (البقرة: 79).

وبشأن التحريف لكلام الله يثبت القرآن أنهم قاموا بالتحريف مرتين:

أ‌-      المرة الأولى فى عهد سيدنا موسى عليه السلام؛ قالى تعالى: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ (النساء: 46).

ب‌-  المرة الثانية لما جاءهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن الكريم الذى يصدق ما معهم من التوراة والإنجيل، فحرفوا الآيات التى تُبشر بالنبى الخاتم والكتاب الذى معه، بعد أن استقرت زمنًا طويلًا، ويعبر القرآن عن هذه المرة تعبيرًا دقيقًا فيقول: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ (المائدة: 41).

وتمضى بنا الآيات لتصل إلى تحويل القبلة، ويكشف القرآن الدافع وراء هذا الإنكار وذلك التشكيك ... لقد كان اليهود ينتظرون النبى الخاتم (نبى آخر الزمان) والكتاب الذى معه من الله تعالى، وكانوا يستفتحون (أى يستنصرون) بهذا النبى وذلك الكتاب (القرآن) فى حربهم مع أعدائهم، ولكن الصادم حقًّا، والذى لا يتفق مع العقل بأى سبيل، أنهم حين جاءهم النبى محمد صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن الكريم كفروا به، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ (البقرة: 89).

ثم تبين الآيات سبب انقلابهم رأسًا على عقب: إن النبى الخاتم الذى ينتظرونه ليس من نسل إسحاق عليه السلام وإنما من نسل إسماعيل عليه السلام ، ومعنى هذا أن النبوة خرجت من بنى إسرائيل إلى العرب، فقامت قيامتهم، وانقلبوا رأسًا على عقب ... حسدًا من عند أنفسهم، قال تعالى: ﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ (البقرة: 90).

 

وهكذا يكشف القرآن الكريم عن الدافع وراء كفرهم وإنكارهم للنبى الخاتم والكتاب الذى معه بعد أن كانوا ينتظرونه ويستنصرون به على أعدائهم .. إنها الأنانية البالغة ... والنرجسية المغرورة .. لقد أرادوا أن يحتكروا النبوة فيهم .. وليس هذا بغريب عليهم، فقد أرادوا أن يحتكروا الجنة لهم قبل ذلك، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (البقرة: 111).

 

واشتدت حملة اليهود ضد النبى وضد القرآن وضد الصحابة .. ضد كل ما هو إسلامى.

وكان الله قد أمر المسلمين بالتوجه إلى بيت المقدس ليخلصهم من بقايا تعلقهم بالبيت الحرام، وما كان فيه من أصنام (هُبل فوق الكعبة، وإساف ونائلة على الصفا والمروة، وأصنام حول الكعبة) وظل المسلمون قرابة سبعة عشر شهرًا يتوجهون فى صلاتهم إلى بيت المقدس، وخلال هذه الفترة لم تنقطع حملة التشكيك وصناعة الزيف عن المسلمين.

 

قائلين: كيف تتبعون قِبلتنا ولا تتبعون مِلتنا؟

وكان ذلك يعز على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يلح فى الدعاء لربه أن يجعل قبلة المسلمين متميزة عن اليهود ويتمنى النبىصلى الله عليه وسلم أن تكون قبلة المسلمين إلى الكعبة البهية قبلة أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

وقُبيل تحويل القبلة أنزل الله على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (البقرة: 142).

ليهيِّئ نفوس المسلمين إلى معركة فكرية قادمة إذا ما استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وتم تحويل القبلة .. وليكشف عن طبائع اليهود التى لا تنقطع عن السفسطة والجِدال بالباطل.

 

ولقن الله النبى والمسلمين حجتهم التى تعتمد الدليل العقلى، قال تعالى : ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (البقرة: 142).

 

يعنى: المسلمون لا يعظمون الأشياء ولا الجهات ولا الأماكن لذاتها وإنما التعظيم لأمر الله تعالى .. الله أمرنا أن نتوجه إلى بيت المقدس فتوجهنا - ثم أمرنا أن نتوجه إلى البيت الحرام فتوجهنا. المؤمن يُعظم أمر الله تعالى.

 

وامتن الله باستجابة دعاء النبى صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ (البقرة: 144). وتمضى بنا الآيات تكشف حملة اليهود لما تحولت القبلة .. حيث قالوا: «إن عبادتكم إلى بيت المقدس أصبحت باطلة بإلغاء قِبلة بيت المقدس وكان البيان الربانى بالحجة البالغة، بأن المسلمين كانوا يتعبدون لله وليس لبيت المقدس، ﴿ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 143).

 

وتكشف آيات القرآن للمسلمين عن حِكم ربانية من وراء تحويل القبلة، يمكن إجمالها فيما يأتى:

1- الكون كله ملك لله بما فيه المشرق والمغرب، وله صلى الله عليه وسلم المشيئة فى أن يوجه من يشاء إلى ما يشاء من مشرق الأرض أو مغربها.

 

2-  والله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء وقت ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه هو الخالق والمدبر، وليس هذا فحسب، بل يريد بذلك اختبار عباده وامتحانهم، ليستبين للمسلمين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه (تنقية الصف الإسلامى).

 

3- إن تغيير القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى البيت الحرام فى مكة لا يدل بحال على تناقض فى أفعاله - ۵ - لأن علم الله أزلى شامل محيط لما كان وما سيكون، فلا تزيده الوقائع علمًا كما هى حال البشر، وإنما هذا أسلوب فى التعليم؛ التعليم بالمواقف والأحداث.

 

4-  فى تحويل القبلة ابتلاء من الله ليظهر المنافق المرتاب من المؤمن الموقن.

 

5- حملة اليهود ناشئة عن الحسد للمسلمين وكتمان الحق من الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التى بشرت بها التوراة.

 

6-  لكل أهل ملة قبلتهم التى يوجهون إليها، فلماذا ينكرون على المسلمين أن تكون لهم قبلتهم الخاصة بهم.

 

7-  والإخبار بقول السفهاء قبل أن يقولوه دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

8-  الحكمة النهائية من وراء الأحكام والأوامر والنواهى هى اتباع الشرع وامتثال الأمر، وهذا هو جوهر الدين.﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾