الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عالم «زهران» المليء بالخير والحب والجمال

سمية عبد المنعم
سمية عبد المنعم

يكمن إبداع القاص والروائي والشاعر الراحل محمد عبد المنعم زهران في منطقة مغايرة، ربما تتماس في رأي البعض مع الأدب الروسي في انتصارها للإنسان كونه إنسانا دون إعمال مربك لمبدأ الخطيئة والثواب والعقاب، إلا أن قلم زهران في حقيقته ينفرد بمهارته في المزج الغريب بين الإنسانيات وروح الميتافيزقيا، حيث قدرته على توظيف تلك الأخيرة لصالح الذات الإنسانية أيضا.

وهو ما يبدو جليا في أدبه عامة، حيث تغلب عليه مشاعر التضحية والبحث الدؤوب عن دواء الروح، والذي قد يجده تارة في حضن، مجرد حضن صادق، وأخرى في رفيق لا يمل انتظاره، أو ربما في محاولة النبش عن الذات الضائعة في إنكار وتنمر المحيطين، أو الركض خلف حلم حائر في أحلام الآخر. 

يصف كتاباته الكثيرون بأنها ذات طابع عالمي، إلا أنه كمبدع كان يفضل أن توصف بالطابع الإنساني، حتى لو وصمت بالمحلية.

ترك محمد عبد المنعم زهران، إرثا إبداعيا، تمثل في أربع مجموعات قصصية وثلاث مسرحيات، وديوان نثري، ومجموعة قصصية مترجمة، وسلسلة في أدب الأطفال. 

حصل على العديد من الجوائز الأدبية، منها جائزة الشارقة للقصة القصيرة، وجائزة يوسف إدريس، وجائزة قصور الثقافة، وغيرها.

وفي مجموعته القصصية المترجمة، والتي ضمت ٦ قصص قصيرة مختارة من مجموعاته السابقة، وصدرت في ترجمتها إلى الإنجليزية، حيث ترجمها محمد الحديني، عن دار أكوان للنشر، برع زهران في التقاط التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية لينسج منها فكرة قصصية تزخر بالمشاعر الإنسانية،  وهو ما يبدو جليا في قصة "ولد طيب بجواري"، حيث ذلك المشهد المعتاد لامرأة طاعنة تتوسد إحدى الحدائق مستقرا وبيتا لها، لكنه بالنسبة للكاتب لم يكن أبدا معتادا، فقد نفذ بقلمه إلى تلك المرأة البائسة واصفا معاناتها اليومية في جمل موحية جاءت على لسانها، ولمس حلمها البسيط في أن تلقى الله ولا شيء لها سوى ولد طيب بجوارها ومذاق البطاطا الساخنة التي أحبت يملأ فمها، ليثير بداخلنا مزيجا عجيبا من الشفقة والاجلال لعجوز حكيمة تحملت قسوة العالم وحيدة.

وهو الاهتمام بالمشاعر الإنسانية ذاته الذي يتجلى أيضا ولكن من زاوية مختلفة في قصته الأكثر شجنا " فردوس"، والتي يسرد عبرها معاناة فتاة لم يصبها حظ من الجمال، لتقع فريسة مجتمع متنمر لا يرحم ضعفها ولا يرى فيها سوى شكلها المختلف والمنفر، فيأتي مشهد النهاية أكثر درامية وشجنا، ليتحقق لتلك الفتاة ما كانت تصبو  إليه ويدرك الجميع ما تحمله من روح ملائكية لا يملكها أحدهم، لكن بعد فوات الأوان وبعد موتها مقهورة كسيرة.

قليلا ما تقرأ قصة أو رواية تصيبك بالدهشة، أو تقذف بداخلك ضوءًا يغلف عتمة روحك، هكذا فجأة ودون شعور منك.

وهو ما فعلته قصة "أصابعي منك في أطرافها قبل"، فهي تحمل بدءا من الفكرة مرورا بالأحداث وحتى نهايتها، كثيرا من المشاعر الإنسانية التي تدور في فلك المثالية المفتقدة، وهو ما يجعلها ذات تأثير مباشر في القارئ، فهي تمس لديه ربما أمنية تكمن في الأعماق، أو حلما يراوده، أو حتى خيبة عاشها ذات يوم.

الإخلاص لحبيب غائب، الإخلاص بتركيبته الأفلاطونية التي تضرب في الخيال، الأمل الذي من أجله يهون العمر، ويصبح الانتظار جزءا مقدسا من حياتنا، تلك القيم المثلى التي يراها البعض نوعا من المبالغة المثيرة للسخرية، إلا أنها في حقيقتها واقع قد يحدث كثيرا لكننا لا ندري عنه شيئا، ذلك هو جل ما ترتكز عليه فكرة القصة.

وكعادة زهران، فهو يجنح للإنسانية ويراها الهدف الأسمى لوجود الإنسان على هذه الأرض، وهي السمة التي تجمع أدبه عامة ، فهو هنا ينتصر للوفاء ويجعل مكافأته الكبرى هي الفوز بالحلم، فالبطلة امرأة محبة، لا تمل من انتظار حبيبها في المكان الذي اعتادا اللقاء به، وطال انتظارها لسنوات سبع، كانت خلالها حديث من مروا بها، ومثلا يضرب في الإخلاص والرومانسية، بل إن الكاتب كاد أن يجعل الجماد ينطق بوفائها ويصرخ مثنيا على صنيعها.

امرأة بتلك الصفات هي أمل الإنسانية، وربما أراد الكاتب هنا ألا يجعل للوفاء نهاية، فكانت خاتمة القصة بداية لحكاية وفاء جديدة كان بطلها رجلا ظل ينتظر من أحب حتى بلغ من العمر عتيا، في رسالة واضحة مفادها أن المُثل والمشاعر الإنسانية الحقة ليست حكرا على جنس بعينه، رجلا كان أم امرأة، وأن قيمًا كتلك ستظل بيننا مادامت الحياة.

التناول الفلسفي واستخدام الرمز دون تعقيد، يتمثل جليا في قصتيه "المتجول في الأحلام"،  و"المرأة في السحابة"، حيث الولوج إلى أفكار الآخرين والوصول السهل إلى ما يريدون، دون كثير عناء، من روح تحمل من الشفافية ما تحمل، وقلب لا يصبو طوال رحلته سوى لحضن دافئ وحقيقي، بل يصل التناول الفلسفي ذروته في "حيرة الكائن"، وهي قصة تنطلق فكرتها من زاوية مختلفة وجديدة، تبدو عبرها حيرة الروح التي تفارق الجسد، حين يحين الأجل، إلا أن ارتباطها الأزلي به، يجعلها لا ترغب في مفارقته إلا في المكان والزمان المناسبين لهذا الجسد، أو بمعنى أدق الأكثر راحة لها هي، وكأنها صارت والجسد وحدة واحدة، وهو ما يتجلى في قوله: "أتراه ذلك الخيط الرفيع، الذى يشدنى فى أوقات خاصة جدا، يشى بالوحدة مع ذلك الجسد ، وأنه – أنا – بصورة أو بأخرى".

 لتنتهي حيرة الروح حين تصل إلى مرفأ أمانها، فتغادر الجسد وهو يسكن بين يدي من أحبها وأحبته، في إصرار مبهج من الكاتب، وربما ليكسر حدة التناول الفلسفي، على أن يضمن فكرته خطًّا رومانسيا وإنسانيا لا مفر منه.

كما يفاجئنا الكاتب عبر مجموعته بأسلوب سردي مختلف، فغالبا ما يكون المتبع أن يصبح الراوي شخصا واحدا يعتمد عليه السرد طوال أحداث أي قصة، خاصة إذا كانت القصة قصيرة وليست رواية ذات فصول متعددة، تسمح بتعدد أنماط السرد، إلا أن الكاتب هنا قد ابتدع طريقة مختلفة في سرد قصته القصيرة، وهو ما يبدو في قصة " أصابعي منك في أطرافها قبل"، فقد استطاع بمهارة يحسد عليها أن يجعل للقصة أكثر من راو، مستخدما هنا مزجا فريدا بين الراوي المتعدد والراوي المشارك، فقد جعل من كل شخوص القصة رواة، يحكي كل منهم جانبه الخاص من الأحداث التي شارك بها، لتتحول القصة إلى أحجية سردية تكتمل مع تصاعد الحدث.

وربما رأى الكاتب هنا أن قصة محملة بكل هذه المشاعر والشجون، لا يمكن أن تعتمد على الكاتب أو الراوي العليم فحسب، فإن كل شخص من شخوص الرواية هو الأقدر وحده دون غيره على سرد مشاعره ووصف ما يحاك بنفسه تجاه المشهد، وهو هنا جعل من كل شخصيات القصة أبطالا ورواة. 

ففي البدء تظن أن البطل يحادث كاتب القصة، والبطل هنا كان للكاتب رأي مختلف في اختياره، والذي ربما عارضه القارئ فيه، إلا أنه صرح برأيه علانية عبر قصته، لكنك وبالتمعن في الأحداث تجد تنوعا فريدا في السرد، فتدور الحكايا على لسان الشخوص بسهولة، فلا تشعر كقارئ بارتباك أو حيرة مما قد يتوقع حدوثهما في مثل هكذا سرد، بل ربما تنتابك الدهشة من تلك القدرة الهائلة للكاتب على الاحتفاظ بالدقة المشهدية رغم الانتقال السريع في السرد وتغيير الضمائر وكثرة أسلوب الالتفات.

والأمر نفسه ظهر في قصة "حيرة الكائن"، حيث الراوي المشارك، فاستخدم أسلوب الالتفات بين الراوي العليم، والروح كراوٍ أكثر علما. 

أما لغته، فيمتلك زهران لغة يدق بها أجراس المعنى قبل اللغة، فهي على بساطة مفرداتها إلا أنها تلج بانسيابية إلى داخلك وتسحبك سحبا إلى عمق أبعد من المراد.  

ولأنه يمتلك روح شاعر، فقد غلبت الشاعرية على مفرداته وتراكيبه، فجاءت العبارات وكأنها سطور من قصيدة طويلة مكتوبة بعناية. 

رغم رحيله عن دنيانا، إلا أن محمد عبد المنعم زهران سيظل بإبداعه الباقي منقبًا عن القيم والجمال، وكأنه فيلسوف أو رسام خلق ليبحث عن الخير في النفوس ويؤصل له.