النقد الذاتي والمصالحة الوطنية

تمر مصر المحروسة بلحظات تاريخية فارقة ليس فيها مجال للاحتفال بنشوة الانتصار للجماهير الشعبية الهادرة
التي خرجت في كل الميادين لإسقاط حكم الإخوان, كما أنه ليس هناك ـ في تصورنا ـ مجال لإحساس جماهير الإخوان المسلمين بمرارة الهزيمة.
علي العكس من هذه الاتجاهات والنزعات المتضاربة, هذه لحظة ممارسة النقد الذاتي من قبل مختلف الأطراف السياسية بدون استثناء واحد, بهدف التوصل إلي غاية استراتيجية عظمي هي المصالحة الوطنية بين جميع الأحزاب والتيارات السياسية, بدون إقصاء لأي طرف.
لو استطعنا أن نمارس النقد الذاتي من ناحية, وأن نحقق المصالحة الوطنية من ناحية أخري, فإن مصر ستستطيع أن تخرج من النفق المظلم الذي قادتنا إليه ـ للأسف ـ الارتباكات الكبري التي صاحبت المرحلة الانتقالية, التي بدأت بعد نجاح ثورة25 يناير, والتي شاركت في صنعها كل الأطراف السياسية, وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين, بحكم أن سياساتها المعيبة والمنحرفة التي طبقها ممثلها في رئاسة الجمهورية الدكتور محمد مرسي, هي التي قادت إلي انقسام المجتمع المصري. ويمكن القول إن بذرة الفشل التاريخي الذي لاقته جماعة الإخوان المسلمين والذي تمثل في الثورة الشعبية الهادرة التي سعت بقيادة حركة تمرد لإسقاط الدكتور مرسي, ونجحت في ذلك بدعم من القوات المسلحة التي انحازت إلي الإرادة الشعبية الحقيقية, تعود إلي ثمانين عاما مضت, ونقصد منذ عام1928, حين أسس الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ جماعة الإخوان المسلمين. وظهرت بوادر انحراف المشروع السياسي للجماعة منذ أن تم خلط الدين بالسياسة, مع أن الدين له مجاله والسياسة لها آفاقها ووسائلها التي تختلف بطبيعة الحال عن الدعوات الدينية.
غير أن أزمة الإخوان المسلمين بدأت حقيقة منذ تحول الجماعة إلي ممارسة العنف ضد خصومها بتكوين الجهاز السري الذي قام بسلسلة اغتيالات لبعض الزعماء السياسيين. ومن هنا, بدأت رحلة الصدام الدموي بين جماعة الإخوان المسلمين وكل النظم السياسية المصرية المتتابعة. ويحق لنا أن نطرح سؤالا مهما هو: لماذا اصطدمت جماعة الإخوان المسلمين مع كل النظم السياسية المصرية, بالرغم من تنوعها واختلافها؟
والإجابة أنها منذ أن نشأت وهي تمارس دورها كجماعة سياسية انقلابية هدفها الاستراتيجي هو الانقلاب علي الدول المدنية في البلاد العربية, وتأسيس دول دينية بهدف إحياء الخلافة الإسلامية.
ويمكن القول إن مرحلة الصراع بين الجماعة والنظام السياسي المصري انتهت في عهد الرئيس السادات, الذي أصدر قرارا استراتيجيا بإدماجهم مرة أخري في الحياة السياسية, إلي أن تم الانقلاب عليه, ثم انتقلت الجماعة إلي مرحلة التوافق مع نظام مبارك, والذي سمح لهم بالترشح لمجلس الشعب.
وجاءت ثورة25 يناير التي شارك فيها شباب الإخوان المسلمين علي غير رغبة قياداتهم بعد أيام من اندلاعها, وحين وصلت المرحلة الانتقالية إلي مرحلة الانتخابات البرلمانية, استطاعت الجماعة مع حزب النور الحصول علي الأكثرية في المجلسين, وكانت هذه خطوة أولي للزحف المتواصل للهيمنة علي مجمل الفضاء السياسي المصري, مما أدي إلي نجاح الدكتور مرسي في انتخابات رئاسة الجمهورية.
والواقع أن الفشل التاريخي لجماعة الإخوان المسلمين يحتاج إلي وقفة نقدية, وأهم من ذلك إلي ممارسة النقد الذاتي الجسور. غير أن قيادات جماعة الإخوان أبعد ما تكون عن القدرة علي ممارسة النقد الذاتي التي تحتاج إلي شجاعة أدبية كبيرة, وهي مازالت تحشد الجماهير الإخوانية لمقاومة ما أسفرت عنه الثورة الشعبية المصرية في30 يونيو, التي أسقطت حكم الإخوان.
غير أنه لفت نظري بشدة أن الإعلامي المصري الأستاذ أحمد منصور مقدم البرامج المعروف في قناة الجزيرة, وهو إخواني الهوي مارس النقد الذاتي بجسارة يحمد عليها, وذلك في مقالة مهمة نشرها في عموده بلا حدود في جريدة المصري اليوم, وذلك بتاريخ6 يوليو2013 وبعنوان طوفان الكراهية للإخوان المسلمين. يقرر أحمد منصور بعد ذكره لتعاطف الناس مع الإخوان المسلمين, خصوصا بعد أن منحوهم الثقة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية أنه.... من العجيب أنه خلال عام واحد فقط من وجودهم في السلطة بلغ طوفان الكراهية لهم حدا غير مسبوق, انتهي بسيطرة القوات المسلحة علي السلطة وعزل الرئيس محمد مرسي, وهو يحدد بوضوح قاطع أسباب الفشل التاريخي للإخوان المسلمين, ويجملها في عدة أسباب:
الأول: أن اختيار مرسي للمنصب كان خطأ كبيرا في حد ذاته, لأن الرجل لا يملك المقومات الرئيسية لرجل الدولة.
ثانيا: لأن مرسي وجد نفسه في مكان لم يعد نفسه له ولم يفكر فيه, فخدع بمظاهر السلطة ولم يتمكن من أدواتها ويدخل إلي جوهرها.
ثالثا: أنه حكم الدولة بعقلية رجل الحزب والجماعة, وجمع حوله فريقا لا يتمتع بكفاءة إدارة الدولة, وفشل في تكوين فريق متجانس من المصريين يدعم أول تجربة انتخابية رئاسية مصرية في التاريخ.
وحاول أحمد منصور أخيرا أن يشخص ظاهرة الكراهية الشعبية التي وجهت ضد الإخوان المسلمين, فقرر أن السبب الأول هو إعلام الفلول, وعجز الإخوان عن الترويج لإنجازاتهم ودخولهم في عدواة مع الإعلاميين, وأهم من ذلك أداء الرئاسة المذري, خصوصا خطابات الرئيس العاطفية والمرتجلة الخالية من المحتوي والمضمون والرؤية والخيال, وإصراره علي رئيس الحكومة وعلي النائب العام والإعلان الدستوري.
وقد أدت هذه الأخطاء جميعا إلي تدمير صورة الإخوان ومكانتهم في المجتمع التي صنعوها خلال ستين عاما بالدماء والسجون والمعتقلات, ولن يستطع الإخوان استعادة مكانتهم وتعاطف الناس الذين خسروهم إلا إذا درسوا تجربتهم وقيموا أخطاءهم وأعادوا بناء أنفسهم من جديد. هكذا تكلم أحمد منصور بصراحة شديدة ومن باب النقد الذاتي,
وهذه الشجاعة مطلوبة ليس فقط من قبل جماعة الإخوان المسلمين, ولكن من قبل كل التيارات السياسية, لتحقيق هدف أسمي هو تحقيق المصالحة الوطنية.
نقلا عن الاهرام اليومى