الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمود الهواري يكتب: أنوار الفاتحة (3).. الحمد لله

د. محمود الهواري
د. محمود الهواري

أوَّل ما ينطق به العبد بعد البسملة «الحمد لله»، وظاهرها أنَّ الله أعلن بذاته ثبوت الحمد لذاته، ومعناها أنَّ الحمد الصَّحيح لا يثبت إلَّا له، وأنَّه -سبحانه وتعالى- يستحقُّ هذا الحمد.

وقد وردت جملة «الحمد لله» في القرآن الكريم في واحدٍ وعشرين موضعًا، بعضها في أوائل السُّور، ومنها: افتتاح سورة الأنعام بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، وافتتاح سورة الكهف بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾، وافتتاح سورة سبأ بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، وافتتاح سورة فاطر بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فضلًا عمَّا جاء في أثناء السُّور.  

وحين نتأمَّل «الحمد لله» فإنَّنا نتساءل: لماذا حمد الله نفسه؟ وما معنى الحمد؟ وما فوائد الحمد؟
أمَّا السِّرُّ في حمد الله لنفسه أنَّ الحقَّ –سبحانه وتعالى- حين يقول عن ذاته: «الحمد لله»، فالمعنى: أنَّ الحمد ثابتٌ لي في الأزل قبل أن يوجد حامدٌ، وأنِّي مستحقٌّ للحمد بلا علَّةٍ.

ومن أنوار حمد الله لنفسه: أنَّ الله تفضَّل على خلقه بحمد ذاته في الأزل؛ لعِلمِه –سبحانه- أنَّ نِعمَه على خلقه لا تُعدُّ ولا تُحصى، وأنَّ الخلق يعجزون عن شكرها، فحمد نفسه عنهم لتكون النِّعمة أهنأ لديهم.

وما أروع هذا المعنى؛ فلو أنَّنا طولبنا أن نشكر نعم الله ما استطعنا، فنِعمَه متجدِّدةٌ لا تنقطع، وكيف نستطيع حمده والتَّوفيق إلى الحمد نعمةٌ تستحقُّ أن تحمد؟!

وأمَّا معنى «الحمد لله» فهو وصف المحمود (وهو الله) بكلِّ كمالٍ وجمالٍ وجلالٍ مع المحبَّة والتَّعظيم، وامتلاء القلب بالفرح بالله؛ فهو سبحانه كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فالحمد لله على أنَّه الله، والحمد لله على نِعم الله، والحمد لله على قضاء الله، والحمد لله أوَّلًا وآخرًا.

و«الحمد لله» أحبُّ الكلام إلى الله، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ».

ولما كان الحمد بهذه المنزلة من قبول الله ورضاه كان أنبياء الله عليهم الصَّلاة والسَّلام يلتزمونها في مختلف أحوالهم، فهذا سيِّدنا نوحٌ -عليه السَّلام- يأمره الله بقوله: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، وهذا سيِّدنا إبراهيم –عليه السَّلام- لما رُزق بالولد من بعد الكبر قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، وبالحمد هتف داود وسليمان -عليهما السَّلام- حين رزقهما الله العلم: ﴿وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وهذا سيِّدنا رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- يأمره الله أن يحمده لذاته قائلًا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾.

و«الحمد لله» هي أفضل ما يأتي به العبد يوم القيامة؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ». 

و«الحمد لله» هي صلاة جميع المخلوقات، وبها يرزق الخلق؛ وقد أكَّد هذا سيِّدُنا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قَالَ عن «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» «إِنَّهَا صَلاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا يُرْزَقُ كُلُّ شَيْءٍ».

إنَّ الواجب على العباد أن يحمدوا ربَّهم على نِعمِه الَّتي لا تنقطع، فكم من صغيرٍ ربَّاه فله الحمد، وكم من ضعيفٍ قوَّاه فله الحمد، وكم من فقيرٍ أغناه فله الحمد، وكم من مريضٍ شفاه فله الحمد، وكم من سائلٍ أعطاه فله الحمد، وكم من داعٍ لبَّاه فله الحمد، وكم من جائعٍ أشبعه فله الحمد، وكم من مسافرٍ صحبه فله الحمد، وكم من غائبٍ ردَّه فله الحمد، فالحمد لله ملء السَّماوات وملء الأرض وملء ما شاء ربُّنا من شيء بعد، والحمد لله ربِّ العالمين.