الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهال علام تكتب: الكتيبة.. وتضحيات أهالي سيناء

نهال علام
نهال علام

الدراما هي مرآة المجتمع بلاشك، وتلك التي لا تعكس إلا قاع أو سقف مجتمعاتها تجعل مستقبل أمتها على المحك، فالدراما صناعة عريقة وتستحق.. الجهد المبذول والمال المدفوع واليقين المشمول بقيمة الرسالة وأهميتها وخطورتها، فالأمر ليس مجرد فيلم سينما ويمُر أو مسلسل تلفزيوني يشغلنا عما حولنا بعض الساعة والمحتوى في كل الأحوال لن يُضر.

كلا بتاتا، أسألوا أصحاب التجربة وفي هذا الحديث أجزم أن خبرتي واسعة! فأنا ابنة بارة للشاشة الفضية مكاني دائماً كان في الصفوف الأمامية، أما بالحديث عن التلفزيونية فذلك عشقي الذي أدين له بالكثير من التجارب الحياتية.

جيلي كانت فيه الأدوار موزعة بسلاسة ومتكاملة، مجتمع قيمته الأعلى أن العيبة جريمة والتربية فيه سلاحها "اختشي"على سبيل التهديد، "زغرة" من باب الوعيد، "وقرصة" في "اللباليب" عندما يستفحل الأمر ويزيد. 
البيت عليه التربية بلا مجهود غير القدوة الحسنة، والتأكيد أن الحسنة بعشرة ويضاعف الله لمن يشاء، لكنها أمانك في الدنيا وأمنك في الآخرة.

أما المدرسة لها مهمة التعليم، والمعلم هو رسول المعرفة الأمين، يعلمك ويرعى مواهبك ويكتشف جوانبك التي قد تغفلها نفسك، والدراما كانت هي التجربة، بوتقة الحياة وخلاصة العبرة والقيم المؤثرة، رأفت الهجان عرّفنا معنى الانتماء وضمير أبلة حكمت كان تأكيدًا أن النزاهة هي سر البقاء، والبخيل وأنا خرجنا منه كرماء رحماء، والحب وحده لا يكفي فهمنا معنى الاكتفاء، يوميات ميزو أكدت على قيمة العمل، وغوايش تؤكد أن هناك دائما أمل، أما الشهد والدموع والمال والبنون علمتنا أن المال الملوث لا يغني ولا يدوم، هكذا كانت السلسلة حلقة مزينة، بالقراءة وماما نجوى وكرنبة والرحلات المدرسية وحفلة عيد الطفولة السنوية ج.

تغير الزمن، ودارت عجلة الأيام وصار أطفال هذا الجيل هم عماد البيت والقوّام على التعليم وصناع الدراما، ولكن إحقاقا للحق فشلنا فشل مدوي في نقل التجربة، نحن معذورون فالخبرات ابنة للمعطيات، فها نحن هنا لكن يكن لدينا خطة للتعامل مع جائحة العولمة، وما نتج عنها من انفتاح جعل الحياة سداح مداح، الموبايل والفضائيات المقترنة بالفضائح والمهاترات لم يكن جزءا من حياتنا البسيطة التي تربينا فيها على السلم والثعبان كأعظم الإنجازات.

أخذتنا الموجة، وانغمسنا في الهوجة لم نستوعب ما يحدث حولنا من صدمة تلك المستحدثات العوجة، ونسينا أن لكل عملة وجهان والخير والشر من بدء الخليقة متلازمان، فما بدا عبثاً صارت الحياة دونه عبساً، حياتنا المادية أصبحت سهلة ولا أعنى بالمادة المال ولكن متطلبات الحياة، فكبسة زر تقرب البعيد وتزور مدائن  النعيم، ولكن حياتنا المعنوية تعقدت، متطلباتنا أصبحت تصاعدية، أحلامنا غير منطقية، تربية الأبناء باتت حملاً كابوسياً، فالبيت الذي كان ترس في الآلة أصبح هو الآلة ولكنها آلة يجب تكهينها فهي يدوية وبدائية كيف تتعامل مع هذا الجيل ذو الچينات التكنولوچية وأصحاب العقول ذات الرقائق الإلكترونية.

أما دور المدرسة فحدث ولا حرج، أعداد التلاميذ في الليمون وتصرفاتهم أقرب إلى الجنون والصبر قد نفد ليستوعب ذلك المجون، تحاول الدولة جاهدة وتنفق مليارات متعاقبة لتحسين جودة المعلم والتعليم ، مئات المدارس تبني سنوياً وآلاف الفصول تضاف لقوة التعليم لتخفيف الكثافة العددية، ولكن الزيادة السكانية الرهيبة التى تصل لطفل كل ١٩ ثانية، تولِد الحاجة إلى ٦٥ ألف فصل جديد سنوياً، تلك الثقافة العددية لا تنتج طاقات إبداعية ولا مجال لاكتشاف مواهب فردية في تلك الاختناقات مع تلاميذ سيكولوچياً مختلفين، عما ورد في كتب التربية والفلسفة على مرّ السنين.

الدراما لم تنجو من مقصلة التغيير سنوات من الانحدار وانعدام التأثير، فكيف لمن تربي على بابا عبده وليالي الحلمية وعيون وهوانم جاردن سيتي، أن يربِي على دراما العشوائيات والعنف والقبح والقتل والخيانة!
سنوات عانت فيها الدراما من تدهور ملموس، مثلها مثل الكثير من مناحي الحياة وخاصة الثقافية و التعليمية، فثقافة العدد انعكست على تلك المجالات بالجدب، أصبحت هي الأخرى كم بلا كيف، لذا على مر العشر سنوات السابقة يمكنني الرهان لو تذكرت اسم مسلسل ذو تأثير، خرجت منه بقيمة أو حكمة أو عبرة أو درس مستفاد وعلى أقل اعتبار لو ترك داخلك ذكرى فلك مني الاعتذار!

لكن المشهد المصري الذي يتغير، وفي كل المجالات يشهد التطور، لم يغفل عن دور الفن وقيمة القوى الناعمة، وأن التأثير الذي ممكن أن يصنعه كتاب في ساعات أو عمل درامي في أيام قد لا يحققه التعليم في سنوات، وبدأنا نشهد منذ سنوات قليلة عودة بعض الموضوعات الجادة للشاشة الصغيرة، أعمال واقعية انعكاس لبيوتنا الطبيعية، وليست تلك التي وثقتها دراما العشر سنوات العجاف أن المرأة هي الخائنة والقاتلة والراقصة وتناست أنها الأم والأخت والزوجة المخلصة، ظناً منهم أنها ليست شخصية جاذبة، وانحسرت الأدوار الرجالية في البطل الشعبي البلطجي، والمجرم العربجي.

عادت الأعمال الدرامية التي تطلق صرخات مجتمعية فالعام الماضي قدمت نيللي كريم عملاً حرك أروقة البرلمان لبحث قانون الأحوال الشخصية، وهذا العام قامت بذلك منى زكي نحو قانون الحسبة، أما عن عودة الأعمال الوطنية التي تؤرخ لوقائع حقيقية عشناها وشاهدناها لكن لو لم توثق لأصبحت عرضة للتأويل والنسيان، فكانت شهادة صدقها أن الشاهدين من الأحياء، ولن ينسوا ما قدمه الشهداء وفعله الخوان، جاءت المسلسلات الوطنية على مرّ السنوات الماضية هي الأعلى مشاهدة، وعلى رأسهم مسلسل الاختيار الذي لا زال يحتل مكانة خاصة في متابعته على المنصات وذلك محض اختيار. 

هذا العام جاء مسلسل الكتيبة، ليس فقط ليثبت بطولات الجيش والتضحيات الضخمة الذي قدمها لتطهير سيناء، وإنما الدور المشرف الذي لعبه أهلها، بعد أعوام من الاتهامات بالعمالة والخيانة، تناسى البعض أدوارهم البطولية في معركة التحرير والخلاص والتي انعكست على حرب أكتوبر بصورة جلية، لذا يعد هذا العمل شهادة تقدير واعتزاز لما قدموه من تضحيات غالية نساءً ورجالاً وأطفالا، فأرض سيناء كانت بمجملها كتيبة، جيشها ومواطنيها شكلوا خط المواجهة ضد خسة الإرهاب وخطة الانفصال لتصبح دولة سيناء الإسلامية ويرفع عليها علم دولة الخلافة الدموية، وكأن الأرض الذي بزغ منها فجر التاريخ هي التي سيغرب منها شمسه!

الدراما ربت أجيال على الانتماء والاجلال، وإذا كانت الأسرة مرتبكة في تعاملاتها مع الأبناء، والمدارس بحاجة لخطة طويلة الأجل ليس لاستعادة دورها فهذا الدور السابق تغير مع تحديات ومستحدثات العصر، وإنما لاستيعاب المطلوب منها وتنفيذه في تلك المرحلة، وهذا ما يعني أن الدراما هي الأقرب والأسرع لعلاج قصور الأسرة والمدرسة، وهذا ما تنتهجه الدولة من خطوات مدروسة، فعندما تحدثنا عن تنمية سيناء تعالت بعض الأصوات التي سأفترض حسن نواياها قصراً بأنه "وهو ده وقته"!

فإذا كانت الصورة بألف كلمة، فمسلسل الكتيبة بعد أن جسد شكل الحياة وحجم المعاناة وكم العطاء الذي ننعم اليوم بسببه في هذا الرخاء من الأمان والاطمئنان، لا يحتاج لكلمة.. تبرر أو تفسر أهمية مسارات التنمية والتعمير في سيناء، فهي خط الدفاع الأول ضد مطامع الإرهاب في الاستيطان بأرض الفيروز العبقرية جغرافياً لذا لن نسمح بطمس تاريخها، فذلك يعني ألا مستقبل لنا، فنحن أمة مرهونة بماضيها إذا ذهب ذهبنا، فالأمس والغد في رباط واحد فمصر دولة الخط الواحد، هوية لا تَتغير وإنما تُغير وتتطور.

أعان الله الجميع على مسؤولية هذا الجيل الذكي العنيد، طاقة بشرية هائلة إن لم نحسن استغلالها، سنتحمل عواقب أفعالها، ولذلك أوجدت الدولة مسارات موازية مثل كابيتانو والدوم لاكتشاف المواهب، والمدارس اليابانية لاختيار المتميزين تعليميا، وغيرها من المبادرات المهمة، ولكن يظل دور الدراما هو أسرع عامل لإنجاز المُهمة.