"إما أن نقود العالم، أو ننسحب منه."— هنري كيسنجر… بهذا التصريح الموجز، لخص كيسنجر معضلة الدور الأمريكي في العالم. لكن دونالد ترامب، الرئيس الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي الحديث، لم يتردد في اختيار الانسحاب، وبطريقة صاخبة وغير مسبوقة.
منذ لحظة دخوله البيت الأبيض، تصرف وكأن العالم عبء ثقيل آن أوان التخلص منه، فشرع في تقويض التحالفات، تمزيق الاتفاقيات، والتشكيك في الأعراف التي قامت عليها القيادة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا التقرير يتناول الأيام المئة الأولى لترامب في ولايته الأولى، لا بوصفها مرحلة تمهيدية، بل كنموذج متكامل لعقيدة سياسية جديدة عنوانها: "أمريكا أولاً... وحدها!” فما الذي حققه ترامب؟ وما الذي خسره العالم؟ وهل كانت تلك الأيام مقدمة لعصر أمريكي جديد أم ذروة اندفاع سياسي قصير الأجل؟
داخليًا، تحدى ترامب الحدود الدستورية للسلطة التنفيذية، مستخدمًا الأوامر التنفيذية بدلًا من التشريعات لفرض السياسات (سعيًا لإنهاء حق الجنسية بالولادة في أحدها). كما شن هجومًا على مؤسسات الثقافة والتعليم والعلوم "النخبوية"، وزرع الخوف في نفوس معارضيه.
خارجيًا، مزق اتفاقات التجارة العالمية، وأخرج الولايات المتحدة من اتفاقات المناخ، وأثار الشكوك بشأن التزام واشنطن تجاه الناتو. بل وهدد باستخدام القوة ضد الحلفاء، سواء بضم كندا كولاية رقم 51 أو بالاستيلاء على جرينلاند. من خلال هذه التصرفات، انسحب من الدور التقليدي للولايات المتحدة في العالم، وربما يكون قد تنازل عن مزايا بلاده لصالح الصين.
استطاع فعل كل ذلك بسبب فوزه الكبير في الانتخابات والدعم الواسع لوعوده الانتخابية الأساسية. وأي تقييم لأدائه خلال أول 100 يوم لا بد أن يعترف بشعبية بعض ما يفعله، سواء في تقليص الهجرة غير الشرعية، أو مواجهة دور الصين في التجارة العالمية، أو إصراره على أن تدفع أوروبا تكلفة دفاعها، أو تقليص الحكومة الفيدرالية.
أجبرته ردود فعل الأسواق المالية على التراجع المفاجئ عن بعض الرسوم الجمركية، وكذلك عن تهديده بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي بسبب عدم خفض أسعار الفائدة. كما بدأت المحاكم الأمريكية بالطعن في سياساته المتعلقة بالترحيل. أما على الساحة الدولية، فقد أصبحت الدول تجد صعوبة متزايدة في رؤية أي "خطة كبرى" وراء تحركاته. بعضهم يتساءل: هل وصلنا إلى "ذروة ترامب"؟
الجواب سيعتمد على من انتخبوه: هل سيعبرون عن خيبة أملهم في الانتخابات النصفية، متأثرين بارتفاع تكلفة المعيشة؟ أم أن ترامب يمثل شيئًا تاريخيًا، موجة تغيير في الوعي السياسي الأمريكي؟ هل يمكن أن تكون الأيام المئة الماضية نكهة حقيقية لسنوات قادمة؟
قد لا يكون الحلفاء الأوروبيون قد أعجبوا بالأسلوب الذي استخدمه ترامب ونائبه جي دي فانس في الحديث عنهم. لكن الفكرة التي يطرحها هذا الفريق الجديد قديمة: الولايات المتحدة سئمت من حمل عبء الدفاع عن أوروبا.
الآن تتسارع الدول الأوروبية إلى زيادة ميزانيات الدفاع، رغم أن تعويض مساهمة الولايات المتحدة قد يستغرق سنوات طويلة، إن أمكن أصلاً. هذا الشعور بـ"أوروبا وحدها" سيستمر حتى بعد ترامب.
لكن ما أثار صدمة أكبر هو تصريحاته عن رغبته في الاستيلاء على كندا وجرينلاند. لم يبد الرئيس أي احترام لمبدأ شبه عالمي في الحوكمة العالمية: أن الاستيلاء على الأراضي بالقوة أمر خاطئ، وعلى المعتدي أن يتوقع العقاب.
الاتفاق الأحادي الذي يحاول فرضه على أوكرانيا، والذي يحملها مسئولية بدء الحرب من خلال استفزاز روسيا، يخرق المبدأ ذاته. حتى بعد رحيله، فإن مشهد رئيس أمريكي يتجاهل هذه القواعد سيقوض قدرة واشنطن على القيادة بالطريقة التي قادتها خلال الثمانين عامًا الماضية.
وعلى الرغم من هذه الفوضى، يبدو أن فريق ترامب يحقق تقدمًا في هدف واحد: الضغط على إيران لتقييد برنامجها النووي. لكن هذا "النجاح" قد يعود إلى التطورات الإقليمية أكثر منه إلى براعة أمريكية في "عقد الصفقات".
الميزة الأبرز لفترة ترامب الأولى كانت إدخال حالة من عدم اليقين: في العلاقات الدولية، وفي التجارة، وداخل البلاد، في مدى قدرة الضوابط والتوازنات الدستورية على تقييد الرئيس. كثير مما يفعله يحقق وعودًا انتخابية. لكن من المستحيل التنبؤ بخطوته التالية، كما أظهرت الرسوم الجمركية المرتجلة.
الاختبار الأهم لما إذا كانت القيود على سلطات الرئيس ستصمد هو الكونجرس. لكن لم تظهر معارضة قوية بعد. الديمقراطيون ما زالوا يفتقرون إلى صوت موحد. أما الجمهوريون، فرغم انقسامهم حول بعض القضايا، إلا أن الولاء يقيدهم.
الجمهوريون لديهم أغلبية ضئيلة جدًا في مجلس النواب، وهي الأقل تقريبًا منذ قرن. وبدون أغلبية، لن يتمكن الرئيس من تمرير قوانين الميزانية. وقد أدى ذلك إلى تكهنات بأن ترامب قد يكون "رئيس نصف ولاية“، فعال فقط خلال أول عامين.
وهذا يشكل نقطة ضعف حقيقية، لا سيما في ظل استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة كأولوية للناخبين. ولكن من الواضح أيضًا أن بعض سياسات ترامب تحظى بدعم واسع. أبرزها إغلاق الحدود الجنوبية تقريبًا أمام المهاجرين. كما أن هجوم إيلون ماسك على حجم الحكومة الفيدرالية يجد تأييدًا في أوساط كثيرة. وكلا السياسيتين أدتا إلى تشدد مماثل في المملكة المتحدة وأوروبا.
الانتخابات النصفية ستكون اختبارًا لما إذا كانت المخاوف الاقتصادية التقليدية ستفوز بالأصوات، أم أن الراديكالية الترامبية ستسود. من المفاجئ أن يختار الناخبون أن يكونوا أفقر، لكن اختبار "ثورة ترامب" هو ما إذا كان تأييدهم لجرأته السياسية سيتجاوز ثمن بيضة.
بعيدًا عن وضعه المحلي، يكمن الخطر في أن تؤدي سياسات ترامب، وخاصة الحرب التجارية مع الصين، إلى إضعاف الولايات المتحدة على المدى الطويل. يعتقد ترامب أن تحركاته ستعزز قوة أمريكا وتنهي استغلالها من قبل نظام عالمي عفا عليه الزمن.
لكن الخطر الحقيقي هو أن تفكيك التحالفات والمؤسسات التي شكلت أساس القوة الأمريكية، بهذه السرعة الجنونية، قد ينتهي بمنح الصين مزايا الولايات المتحدة، في الابتكار، والقوة التجارية، والنفوذ العالمي.