في أحد الليالي الباردة من شتاء فيينا عام 1811، جلس الشاب النمساوي فرانز، عازف البيانو المغمور، في قاعة المسرح الملكي، ينتظر حدثًا غريبًا لا يشبه حفلات الموسيقى المعتادة التي ضجّت بها العاصمة الأوروبية. على الورق، الأمر لا يبدو استثنائيًا: عرض موسيقي جديد للعبقري لودفيغ فان بيتهوفن، بعنوان The Ruins of Athens، وضعه خصيصًا لافتتاح مسرح في بودابست.
لكن ما سمعه فرانز قبل العرض جعل قلبه يتسارع بشيء من الرهبة.
«تخيل، بيتهوفن أدخل كلمات غريبة… شيء عن “الكعبة”، عن “محمد”!»، هكذا همس له صديقه الناقد الموسيقي وهو يناوله كتيب النص المسرحي الأصلي، الممهور باسم الكاتب الشهير أوغست فون كوتسيبو.
لم يكن فرانز يفهم العربية، ولا يعرف عن الإسلام شيئًا يُذكر، لكنه نشأ في بيت يقدّس صورة “الشرق الغامض”، حيث تتجاور في الأحاديث الحكايات عن ألف ليلة وليلة مع صور الدراويش وهم يدورون في حلقات سحرية.
ومع ذلك، شعر بانقباض داخلي: كيف يُدخل بيتهوفن هذه الأسماء «المقدسة» في أوروبا المسيحية، في عمل مسرحي يُعرض وسط تصفيق النبلاء؟ هل كان تحديًا مقصودًا؟ أم مجرد نغمة exotic جديدة كالتي يتهافت عليها الأرستقراطيون في حفلاتهم؟
دخل بيتهوفن القاعة متجهمًا كعادته، لم ينظر إلى أحد.
في الكواليس، أخبر أحد العازفين زملاءه: «إنه لا يعرف حتى ماذا تعني هذه الكلمات، لم يكتبها بنفسه. مجرد نص من كوتسيبو، وبيتهوفن أراد أن تبدو الموسيقى شرقية. قال لي: نحتاج شيئًا يجعل الأوروبي يتخيّل المآذن، الدوران، العتمة، الصحراء…».
ضحك أحدهم وأضاف: «إنهم يتصورون أن الشرق كله صوفيون يهمهمون في غبار الصحراء».
انطفأت الأنوار.
بدأت الألحان: نغمات بطيئة، مضطربة، كأنها تقود المستمع في دهليز خفي.
ثم… ظهر الكورال:
“Chor der Derwische”…
ترددت الكلمات وسط الجوقة: «كعبة… محمد…»
صُدم الحضور، بعضهم عقد حاجبيه، بعضهم ابتسم بدهشة متعالية، أما فرانز فشعر كأن الجدران تميد تحته.
لم يكن يعرف أن هذه الكلمات ليست إلا صدى لصورة مشوشة عن الإسلام في المخيلة الأوروبية: الشرقُ «الغامض» الذي يثير شهية الشعراء والملحنين لا أكثر، لا رسالة دينية، ولا هجاء، ولا مدح… مجرد مشهد مسرحي، كأنهم يعيدون اختراع الأسطورة كما يحب الأوروبي أن يتخيلها، لا كما هي في الحقيقة.
بعد العرض، سرت همسات في صالات فيينا: «لم يبالغ؟ كيف تجرأ؟»، «بيتهوفن لا يعني شيئًا، النص ليس له»، «بل هو الفن، الفن فوق الأديان»، «أم لعلها موسيقى للأباطرة؟».
ومضت الأيام. لم يتوقف أحد طويلاً عند تلك الكلمات، لا في بودابست ولا في فيينا. لكنها بقيت تُتداول بين المتذوقين، بوصفها أحد شطحات بيتهوفن الشرقية، كما كان آنذاك دارجًا في أوروبا المستغرقة في تقليعات «الغرابة».
لكن… ماذا لو علم بيتهوفن يومًا أن هذا الاسم “محمد”، وهذه “الكعبة”، ليستا فقط زخارف لمشهد exotic، بل هما قلب ثقافة حية باقية…؟
ذلك سؤال لم يكن فرانز يعرف جوابه.