كنت أتصفح مؤخراً كتاباً ضخماً، بعنوان "تاريخ الشعوب العربية" لألبرت حوراني، وكأنني أقلب صفحات ألبوم عائلة شاهدت مجداً عظيماً ثم آلت إلى حياة فيها كثير من الهموم. لا يسع المرء إلا أن يتساءل: أي قوة عجيبة هذه التي تمكن مؤرخا من اختزال قرون من الأفراح والأتراح، من البدايات المفعمة بالأمل إلى النهايات التي لا تخلو من مرارة، في بضع مئات من الصفحات؟
يخيل إليّ أن ما نسميه "العروبة" اليوم هو، إلى حد كبير، بناء حديث. نعم، كانت هناك لغة مشتركة وثقافة إسلامية عالية جعلت من ابن سينا الفارسي وابن رشد الأندلسي وابن خلدون التونسي جزءاً من تراثنا "العربي". ولكن الشعور القومي بالانتماء إلى أمة واحدة، بهذه الصورة التي عرفناها في القرن العشرين، هو ابن ظروفه التاريخية: مواجهة الاستعمار، وصعود الإذاعة والتلفزيون، وخطابات الزعماء.
الكتاب يسلط الضوء على استمرارية التاريخ العربي، لكن التحليل الحقيقي يكمن في كشف لحظات القطيعة. فالهوية العربية اليوم تشبه نهراً كبيراً، يبدو للعيان مستمراً، لكن مياهه تتجدد تماماً كل بضع كيلومترات. مياه العصر العباسي غير الأموي، ومياه العصر المملوكي غير العباسي، ومياه القرن العشرين هي خليط من كل ما سبق، ممزوج بمياه الاستعمار وأنهار العولمة.
سطوة المصطلح وخطاب الهيمنة
يذكر أن حوراني يقدم في كتابه تحليلاً شاملاً للتاريخ العربي منذ ظهور الإسلام حتى أواخر القرن العشرين، لكن القارئ الناقد لا بد أن يتوقف عند إشكالية المصطلحات والمفاهيم التي تشكل وعينا دون أن ندري. ومن أخطر هذه المصطلحات كلمة "الاستعمار" التي صارت تطلق على الفترة التي هيمن فيها الغرب على كثير من بلدان العالم.
إذا عدنا إلى الجذر اللغوي للكلمة، نجد أنها مشتقة من "عَمَر" أي أصلح وأقام وأعطى الحياة. فكأن من يستعمر يأتي إلى أرض خراب ليعمرها، ويبني فيها حضارة من العدم. ولكن، هل كانت أراضينا قبل مجيء المحتل أرضاً بلا تاريخ، بلا حضارة، بلا شعب؟ بالطبع لا.
بلادنا، من المحيط إلى الخليج، كانت عامرة بحضارات عريقة، بأنظمة حكم، باقتصادات مزدهرة، بثقافات غنية، وبمجتمعات متطورة. لم تكن "أرضاً بلا شعب" كما ادعت بعض الروايات الاستعمارية، وما حدث كان احتلالاً، استيطاناً، نهباً للموارد، وتدميراً ممنهجاً للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة.
وهنا نصل إلى قلب الإشكالية: لماذا نستخدم نحن أنفسنا مصطلحاً يصور المحتل كمصلح ومنقذ؟ لأن اللغة، في كثير من الأحيان، تكون أداة هيمنة. فالذي يسيطر على الأرض، يسيطر على السردية، ويكتب التاريخ من وجهة نظره. وهكذا، تتحول عملية السلب والنهب إلى "رسالة تحضر"، ويصبح القهر والاستغلال "مهمة تنوير". ونحن، حين نكرر هذه المصطلحات من غير وعي، نكون قد قبلنا – دون أن ندري – بالرواية التي كتبها المنتصر.
التنوع الذي نخشاه والوحدة التي نتمناها
يؤكد حوراني، على التنوع والاختلاف داخل الحضارة العربية والإسلامية. وهذه أولى المفارقات. فنحن، كعرب، كثيراً ما نتغنى بوحدة أمتنا، ولكننا في واقع الأمر نخشى تنوعها! نريد وحدة تشبه الطابور العسكري، كل شيء فيه على نسق واحد، لا وحدة الحديقة الغناء التي تزدهر بتنوع أزهارها وألوانها.
طوال القرن العشرين، سمعنا خطابات ترفع شعار "الوحدة العربية"، ولكنها في الوقت نفسه كانت تسحق الخصوصيات المحلية وتعتبرها "أقليات" قد تهدد الكيان الجامع. لكن الكتاب يذكرنا بأن قوة الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها كانت في قدرتها على استيعاب هذا التنوع – البربري والكردي والقبطي والآشوري وغيرهم – وتحويله إلى نسيج واحد متين، لا إلى بوتقة انصهار تذيب كل ما هو مختلف.
السلطة والمعرفة..
هنا نصل إلى نقطة جوهرية وهي أن تاريخ النخب هو الذي دون، بينما تاريخ "الشعوب" بقي صامتاً. الكتاب يحاول، مشكوراً، أن يعيد الاعتبار للتنوع، لكن المصادر نفسها متحيزة. نحن نعرف الكثير عن قصور الخلفاء وحروبهم، ولكننا نعرف القليل عن حياة الفلاح المصري أو الحرفي الشامي أو البدوي في الصحراء.
يُحسب لحوراني أنه في كتابه "تاريخ الشعوب العربية" لا يقتصر على سرد الأحداث السياسية الكبرى، بل يهتم أيضاً بتأثير هذه الأحداث على حياة الناس العاديين، مسلطاً الضوء على التحديات والآمال التي يعيشها هؤلاء الأفراد في ظل تلك الظروف. لكن تظل الإشكالية قائمة: كيف نكتب تاريخاً شعبياً بأدوات النخبة؟
تاريخنا كتب بأقلام المنتصرين، أو على الأقل، بأقلام من كانوا قريبين من دائرة السلطة. وهذا يجعلنا نرى التاريخ كسلسلة من الأحداث الكبرى: المعارك، تغيير السلالات الحاكمة، المشاريع العمرانية الضخمة. ولكن التاريخ الحقيقي للشعوب هو تاريخ المجاعات الهادئة، والأمراض التي فتكت بالعامة، والطرق الصوفية التي وفرت سلوى للفقراء، والأغاني والأمثال التي حفظت روح المقاومة.
إعادة كتابة التاريخ.. من منطق القطيعة إلى منطق الاستمرارية
يكشف لنا تحليل كتاب مثل "الجيل العثماني الأخير" لمايكل بروفانس عن استمرارية خفية بين العهدين العثماني والاستعماري، على عكس فكرة القطيعة التي رسختها الكتابات التاريخية السابقة. من خلال تتبع سير الشخصيات العسكرية والسياسية التي تشكلت في المدارس والمؤسسات العثمانية، يظهر كيف أن "الجيل العثماني الأخير" ظل يحمل رؤية جامعة لم تستطع الحدود المصطنعة محوها بين ليلة وضحاها.
اللافت في تحليل بروفانس هو كشفه عن التناقض الجوهري في المشروع الاستعماري: فبينما ادعى البريطانيون والفرنسيون أنهم جاءوا لتحرير الشعوب من "الاستبداد العثماني"، كانوا في الواقع يدمرون بنى الدولة الحديثة التي أقامها العثمانيون في قرنهم الأخير، من مدارس وجامعات وبنى تحتية وأنظمة إدارة.
هذا التناقض يذكرنا بمقولة إدوارد سعيد عن "الاستشراق" الذي يصور الشرق كياناً متخلفاً يحتاج إلى حضارة الغرب، بينما هو في الواقع يدمر مقومات نهضته الذاتية.
الحداثة المأزومة وإشكالية التلقي
أخطر ما يطرحه حوارني، ربما من حيث لا يدري، هو سؤال الحداثة. لقد دخلت الحداثة إلى العالم العربي مثل دخولها إلى كثير من البلدان: على ظهر الدبابات الاستعمارية وعلى أجنحة البضائع الأوروبية. لكن الفارق الجوهري هو أن اليابان، على سبيل المثال، استطاعت أن "تتبنى" الحداثة مع الاحتفاظ بجوهر هويتها. بينما نحن، دخلنا في علاقة حب-كراهية معها.
نريد القطار السريع، ولكننا نرفض الانضباط الزمني الذي يصنعه. ونريد الديمقراطية، ولكننا نتمسك ببنيات قبلية وعائلية تقوم على الولاء وليس على المواطنة. نريد التكنولوجيا، ولكننا نخشى العقلانية العلمية التي أنتجتها.
هذه الازدواجية خلقت إنساناً عربياً معاصراً يعيش في شقين: شق عام، حديث الشكل، يتحدث بلغة العصر، وشق خاص، تقليدي الجوهر، يبحث عن اليقين في الماضي. هذا الصراع الداخلي هو، في رأيي، المصدر الأساسي للعنف والانسحاق الذي نعيشه. تاريخنا لم يعد مصدر إلهام، بل أصبح سجناً نحمله على ظهورنا. نحن لم ننجح في صناعة "حداثتنا العربية" الخاصة، التي تستوعب الماضي دون أن تكرسه، وتتبنى المستقبل دون أن تذوب فيه.
التاريخ كـ "وعي" لا كـ "ذاكرة"
الخلاصة التي أصل إليها هي أن قراءة كتاب مثل "تاريخ الشعوب العربية" يجب ألا تهدف إلى تخزين المزيد من المعلومات في الذاكرة، بل إلى إيقاظ "الوعي التاريخي". الوعي التاريخي هو القدرة على رؤية الذات جزءاً من حركة تاريخية، لها ماض متعدد الأصوات، وحاضر مليء بالتناقضات، ومستقبل لم يكتب بعد.
نحتاج إلى أن نتحول من "أمة تذكر" إلى "أمة تتفكر". الأمة التي تذكر تتباهى بالماضي وتستعذب حلاوته. أما الأمة التي تتفكر، فتسأل: لماذا كان ذلك العصر عظيماً؟ وما هي الشروط الموضوعية التي أتاحت تلك العظمة؟ وهل هذه الشروط ممكنة اليوم؟ وكيف يمكننا صنع عظمتنا الخاصة، المختلفة، الملائمة لعصرنا؟
قراءة التاريخ بهذا الأسلوب النقدي التشريحي ليست عملية أكاديمية بحتة، هي ضرورة وجودية. إنها محاولة للإجابة على السؤال الأكثر إلحاحاً: من نحن؟ ولماذا وصلنا إلى ما نحن عليه؟ وكيف نصنع مستقبلاً نستحق أن يكتب عنه في طبعات مستقبلية من هذا الكتاب؟ ذلك هو التحدي الحقيقي الذي يطرحه بين دفتيه.