قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

نجاة عبد الرحمن تكتب: مصر في بروكسل.. حين تتحدث الدولة بلسان القوة والعقل

نجاة عبد الرحمن
نجاة عبد الرحمن

لم تكن مشاركة مصر في المؤتمر الاقتصادي الذي استضافته العاصمة البلجيكية بروكسل حدثًا عابرًا في جدول العلاقات بين القاهرة والاتحاد الأوروبي، بل محطة كاشفة عن عمق التحول الذي تشهده السياسة المصرية في إدارتها لملفات الشراكة الدولية، وتحديدًا مع القارة العجوز التي وجدت نفسها في السنوات الأخيرة أمام واقع جديد تفرضه حقائق الجغرافيا وموازين القوة.

ذهب الوفد المصري إلى بروكسل لا ليطلب دعمًا أو ليقدّم تنازلات، بل ليرسم ملامح علاقة قائمة على التوازن والمصالح المتبادلة. ومنذ اللحظة الأولى، بدا واضحًا أن القاهرة تدخل المؤتمر وهي تحمل أجندة وطنية محددة المعالم، تقوم على تثبيت مفهوم الشراكة لا التبعية، وعلى جعل الحوار مع أوروبا قائمًا على الندية لا على المساومة.

كان الحضور المصري لافتًا من حيث التمثيل والرسائل. فقد رأس الوفد رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ممثلًا للرئيس عبد الفتاح السيسي، بمشاركة وزراء الخارجية والمالية والتخطيط والتعاون الدولي، إلى جانب مجموعة من رجال الأعمال والمستثمرين المصريين الذين يمثلون قطاعات الصناعة والطاقة والتحول الأخضر. والرسالة من هذا التشكيل كانت واضحة: مصر لا تنظر إلى المؤتمر كمنبر سياسي فحسب، بل كمنصة عمل اقتصادية ودبلوماسية متكاملة.

شهد المؤتمر إعلان الاتحاد الأوروبي عن حزمة دعم وتمويل لمصر تصل إلى 7.4 مليار يورو، منها 5 مليارات قروض ميسّرة و1.8 مليار استثمارات مباشرة و600 مليون يورو منح لا تُردّ، وهو رقم يعكس حجم الثقة في قدرة الدولة المصرية على إدارة الاقتصاد رغم ما يواجهه العالم من تقلبات وأزمات. لكن القاهرة لم تتعامل مع هذه الأرقام بوصفها “منحة”، بل كاستثمار في الاستقرار الذي تمثّله مصر في محيطها.

من تابع الكواليس السياسية للمؤتمر يلحظ أن الموقف الأوروبي لم يكن نتاج لحظة، بل ثمرة مسار طويل من الاتصالات والمشاورات الثنائية التي شهدتها العواصم الأوروبية خلال العام الماضي، خصوصًا بعد زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى القاهرة في مارس الماضي، حين وقّعت مع الرئيس السيسي وثيقة “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”. هذه الوثيقة مثّلت الأساس السياسي للمؤتمر، وفتحت الباب أمام صيغة جديدة من التعاون لا تقتصر على الملفات الاقتصادية، بل تشمل الأمن والطاقة والهجرة والتنمية المستدامة.

القاهرة، في المقابل، أدارت مشاركتها بمنطق الدولة الواثقة من أوراقها. ففي الكلمة الرسمية التي ألقاها رئيس الوزراء المصري، جاء التركيز على ضرورة أن تقوم الشراكة على احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو تأكيد صريح على أن مصر لم تعد تقبل لغة الإملاءات السياسية التي كانت ترافق المساعدات والمنح الأوروبية في الماضي. كما شدّد مدبولي على أن مصر تتحمل مسؤولية حماية حدود المتوسط الجنوبية من الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وهو ما يمثل “خدمة أمنية” لأوروبا ذاتها، وينبغي أن يُقابل بدعم متبادل حقيقي في مجالات الاستثمار ونقل التكنولوجيا.

اللافت في مداولات المؤتمر أن الموقف المصري لاقى تقديرًا واضحًا من عدة أطراف أوروبية، منها المستشار الألماني أولاف شولتس الذي وصف مصر بأنها “ركيزة استقرار في الشرق الأوسط وشريك لا غنى عنه في أمن البحر المتوسط”، وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أكّد خلال لقائه بالوفد المصري أن باريس ترى في القاهرة شريكًا استراتيجيًا في ملف الطاقة والغاز الطبيعي، خصوصًا بعد أزمة الإمدادات الروسية.

أما المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية باولو جينتيلوني فقد ذهب أبعد من ذلك حين قال إن “مصر تمثل حجر الزاوية في أي سياسة أوروبية متزنة تجاه إفريقيا والشرق الأوسط”، في إشارة صريحة إلى إدراك أوروبا أن أي خلل في العلاقة مع القاهرة ستكون له انعكاسات مباشرة على أمنها القومي.

في المقابل، لم يغب الجانب العملي عن المشهد؛ إذ شهدت الجلسات التخصصية توقيع عدد من الاتفاقيات بين الحكومة المصرية ومؤسسات التمويل الأوروبية، منها اتفاق لإنشاء محطة لإنتاج الهيدروجين الأخضر بقدرة 300 ميجاوات في العين السخنة، واتفاق آخر لتطوير مشروعات البنية التحتية في الإسكندرية والسويس بتمويل يتجاوز 800 مليون يورو، بالإضافة إلى اتفاق مبدئي لدعم برنامج التحول الزراعي المستدام بقيمة 250 مليون يورو.

لكن ما كان أكثر عمقًا من الأرقام هو “لغة الموقف”. فالمتابعون لاحظوا أن مصر، خلال جميع الجلسات، كانت تتحدث بصوت الدولة التي تعرف قيمتها ومكانتها، لا بصوت الدولة التي تنتظر العون.

 وفي تصريحاتها الجانبية، أكدت وزيرة التعاون الدولي رانيا المشاط أن “مصر لا تطلب دعماً بقدر ما تطرح فرصاً”، وهو تصريح لخص جوهر التوجه المصري الجديد في إدارة العلاقات الخارجية.

هذه المقاربة الجديدة تعكس تحوّلًا في فلسفة السياسة المصرية بعد سنوات من الأزمات العالمية المتلاحقة. فبينما كانت بعض الدول في المنطقة تتعامل مع الغرب بمنطق الارتهان الاقتصادي أو الابتزاز السياسي، اختارت مصر طريقًا ثالثًا يقوم على التعاون المتوازن. هي لا تبيع مواقفها، ولا تسمح بأن تُشترى، بل تبني مصالحها ضمن معادلة واضحة: احترام السيادة مقابل التعاون، والأمن مقابل التنمية، والاستقرار مقابل الاستثمار.

من الناحية الجيوسياسية، فإن قمة بروكسل تأتي في لحظة حساسة تمر بها أوروبا بعد اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية، وما تبعها من أزمات طاقة وهجرة، وهي أزمات جعلت الاتحاد الأوروبي يدرك أن استقرار ضفة المتوسط الجنوبية ليس ترفًا بل ضرورة أمنية واقتصادية. وهنا تبرز أهمية الدور المصري الذي لا يُقاس فقط بالقدرة على ضبط الحدود، بل بقدرته على إدارة ملفات معقدة مثل غزة وليبيا والسودان دون أن ينجرف إلى الفوضى.

إن أوروبا اليوم تحتاج إلى مصر بقدر ما تحتاج مصر إلى أوروبا. لكنها حاجة متبادلة، لا تنطوي على انحناء ولا تبعية. فمصر تمثل بوابة إفريقيا إلى الشمال، وممر التجارة العالمية عبر قناة السويس، ومصدرًا للطاقة والغاز إلى القارة التي تبحث عن بدائل بعد فقدانها الغاز الروسي. وفي المقابل، تمثل أوروبا شريكًا تكنولوجيًا وتمويليًا أساسيًا لمصر في مشروعات التحول الأخضر والتنمية المستدامة.

من هنا، يمكن القول إن بروكسل لم تكن مجرد مؤتمر اقتصادي، بل اختبار لنضج العلاقات بين الطرفين. والنتيجة أن القاهرة خرجت منه أقوى، سياسيًا واقتصاديًا، بعدما فرضت منطقها الهادئ على طاولة مزدحمة بالمصالح.

ما قالته مصر هناك لم يكن خطابًا دبلوماسيًا تقليديًا، بل إعلان فلسفة دولة تعرف وزنها في الإقليم وتدرك أن احترامها يبدأ من تمسكها بقرارها الوطني. وحين تصر القاهرة على أن “الاستقرار المصري ليس سلعة تُمنح ولا عبئًا يُحمَل”، فهي ترسم معالم مدرسة سياسية جديدة في التعامل مع أوروبا، تقوم على مبدأ: “التعاون من موقع القوة لا من موقع الحاجة.”

لقد أثبتت القاهرة في بروكسل أن من يملك قراره يفرض احترامه، وأن الشراكة لا تُنال بالرجاء بل تُبنى بالعقل والموقف. فمصر التي خرجت من أزمات كبرى أقوى مما كانت، لم تعد تقبل أن تُختزل في دور تابع أو وسيط، بل باتت طرفًا فاعلًا يصوغ التوازن بين الشمال والجنوب، ويعيد إلى السياسة معناها الأصيل: أن تكون سيدة نفسك أولًا. وفي عالم يتبدّل فيه الولاء بالمصلحة، اختارت مصر أن تظل على ثوابتها: لا تبيع أمنها، ولا تساوم على كرامتها، ولا تتنازل عن حقها في أن تُسمع كلمتها من موقع الندّ، لا من مقعد المستمع.