قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. محمد بشاري يكتب: القاضي الذي حوَّل منصة القضاء إلى مقعد أبٍ رحيم

د. محمد بشاري، الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
د. محمد بشاري، الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

لم يكن فرانك كابريو مجرد قاضٍ أمريكي جلس خلف المنصة لسنوات طويلة، بل كان أشبه براوٍ إنساني يحكي قصص الناس البسطاء بلغته الخاصة، لغة الرحمة الممزوجة بروح القانون. رحل الرجل عن عمر الثامنة والثمانين بعد صراع شاق مع سرطان البنكرياس، لكنه ترك إرثًا نادرًا لا يقاس بالأحكام التي أصدرها، بل بالابتسامات التي رسمها على وجوه من مثلوا أمامه، وبالثقة التي أعادها إلى الملايين في أن العدالة يمكن أن تكون أكثر دفئًا من نصوص جامدة. 

كان كابريو يعيش لحظة الحكم كما لو كان يكتب فصلًا من قصة إنسانية، يسمع أولًا ثم يتفهم ثم يبحث عن مساحة يلتقي فيها الحق مع الرحمة.

المحكمة التي عُرف بها لم تكن كسائر المحاكم، كانت أقرب إلى مسرح حيّ تُعرض فيه حكايات الناس بكل تناقضاتها، ومن هناك وُلد برنامجه الشهير “Caught in Providence” الذي جعل من جلساته مادة يتابعها الملايين.

لم يكن يسعى وراء الأضواء، بل أراد أن يقول للعالم: هكذا يكون القانون عندما يسكنه الضمير. في مشهدٍ متكرر كان يستقبل مخالفات مرورية بسيطة، لكنه كان ينظر إليها كنافذة على حياة إنسان يعيش ضغوطًا أو يواجه تحديات. يسأل عن تفاصيل عائلية، عن دخلٍ محدود، عن مرضٍ أو عذرٍ مشروع، ثم يبتسم ويحوّل الحكم إلى فرصة للتخفيف والتشجيع لا إلى عبء يضاف إلى كاهل المتهم. لقد فهم القاضي أن القانون إذا لم يُمارَس بلغة الناس يظل غريبًا عنهم.

واحدة من أكثر اللحظات التي تداولتها الشاشات كانت حين وقفت أمامه امرأة مسلمة تدافع عن ابنها، فلم يكتف بإنصافها في الحكم، بل قدّم نموذجًا في احترام الرموز الدينية والخصوصية الثقافية، فكانت تلك اللحظة جسرًا بين القانون والإنسانية. لم يكن ذلك استثناءً بل قاعدة سار عليها طوال مسيرته: العدالة لا تفرّق بين دين وجنس ولون، بل تُعلي كرامة الإنسان فوق كل اعتبار. ولهذا السبب انتشر أثره في الشرق كما في الغرب، ورأى فيه الناس جميعًا صورة القاضي الإنسان الذي لا يساوم على الحق لكنه لا يتنكر للرحمة.

اللافت في تجربته أن الرحمة لم تكن ضعفًا أو نزوة عاطفية، بل كانت رؤية قانونية أصيلة. كان يقول إن وظيفة القضاء ليست جمع الغرامات، وإنما حماية المجتمع بالعدل. وحماية المجتمع في نظره لا تتحقق فقط بالعقوبة، بل أحيانًا بالصفح أو بإعطاء فرصة جديدة. لقد أدرك أن السلوك البشري هشّ، وأن الناس معرضون للخطأ، لكن من حقهم أيضًا أن يُعاملوا بإنصاف. كان يعلّم جمهوره أن العقوبة وسيلة للإصلاح لا غاية في ذاتها، وأن القاضي الذي يكتفي بإصدار حكم بارد يفقد جوهر رسالته.

حين أُعلن خبر وفاته، لم يكن النعي محليًا فحسب، بل عالميًا. الإعلام الأمريكي وصفه بألطف قاضٍ في العالم، وخفضت الأعلام في ولايته احترامًا له، بينما امتلأت الصحافة العربية والعالمية بصور ومقاطع لابتساماته وأحكامه المليئة بالود. كانت رسالته الأخيرة قبل رحيله طلبًا للدعاء، وكأنّه أراد أن يختم حياته كما عاشها: متواضعًا، قريبًا من الناس، لا يتحدث عن مجده الشخصي بل عن حاجته إلى الرحمة.

إن رحيل فرانك كابريو يفرض علينا وقفة طويلة. فهل يمكن أن نستلهم من سيرته طريقًا لإصلاح العدالة في مجتمعاتنا؟ كيف نحوّل المحاكم من أماكن للخوف إلى فضاءات تصون الكرامة؟ كيف نعلّم القضاة أن الصرامة لا تنفي الرحمة، بل إنهما جناحان للعدل؟ هذه الأسئلة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة حقيقية في عالمنا العربي حيث كثيرًا ما ينظر الناس إلى القضاء بوصفه سلطة مخيفة لا كسلطة منصفة.

لقد أثبت كابريو أن القاضي يمكن أن يكون رفيقًا بالناس من دون أن يتنازل عن هيبة المنصة، وأن الابتسامة لا تضعف هيبة القانون بل تزيدها رسوخًا. وأثبت أيضًا أن الثقة في القضاء تُبنى بلحظة إنصات صادق أكثر مما تُبنى بحكم صارم. في زمن يكثر فيه الحديث عن الإصلاح السياسي والقانوني، تظل تجربته مثالًا على أن الإصلاح يبدأ من القاضي الذي يفهم أن النص بلا روح يصبح أداة قمع، بينما النص حين يسكنه الضمير يتحول إلى ضمانة للحرية والكرامة.

وهكذا، لم يكن وداع فرانك كابريو وداعًا لرجل فحسب، بل كان وداعًا لفصل مضيء في تاريخ العدالة الرحيمة. سلام على هذا القاضي الذي جعل من قاعة المحكمة منبرًا للإنصاف والرفق، وسلام على كل من يسير على نهجه في أي أرض أو دين أو ثقافة. لقد رحل الجسد، لكن ستظل ابتساماته وأحكامه العادلة حيّة، تذكّر العالم أن القانون يمكن أن يبتسم، وأن العدالة إذا سكنتْها الرحمة صارت أكثر خلودًا من أي حكم أو نص.