البنك الدولي يكشف وصفة للنمو.. كيف يمكن للاقتصاد المصري أن يقفز بنسبة 67%"
تشير تقديرات حديثة صادرة عن البنك الدولي إلى أن مصر قد تكون على أعتاب مرحلة اقتصادية جديدة ومختلفة تماماً عمّا عرفته خلال العقود الماضية. مرحلة لا تقوم فقط على وعود النمو ولا على التصريحات المتكررة، بل على قراءة علمية لحجم الإمكانات المتاحة، وبخاصة ما يمتلكه الشباب والنساء والقطاع الخاص من طاقة يمكن أن تغيّر شكل الاقتصاد بالكامل خلال السنوات الـ25 المقبلة. التقرير الأخير لم يكن مجرد دراسة اقتصادية، بل أقرب إلى جرس إنذار يدعو إلى التحرك، وفِي الوقت نفسه يفتح باب الأمل على مصراعيه بأن المستقبل قد يكون أفضل إذا ما جرى استثماره بالطريقة الصحيحة.
أزمة سوق العمل.. مشكلة أعمق من الأرقام
ورغم أن الأرقام الرسمية تُظهر معدلات بطالة منخفضة نسبياً، إلا أن الواقع يحمل تعقيداً أكبر. إذ يدخل إلى سوق العمل كل عام ما يقرب من مليون وثلاثمائة ألف شاب، فيما لا يتم خلق سوى نصف هذا العدد تقريباً من الوظائف. وهذا يعني ببساطة أن آلاف الشباب ينضمون سنوياً إلى طابور الانتظار الطويل. الأسوأ من ذلك أن مشاركة النساء في سوق العمل لا تزال ضعيفة للغاية، الأمر الذي يصفه البنك الدولي بأنه إهدار لطاقة بشرية هائلة.
هنا تتضح المفارقة: بلد شاب، يمتلك ملايين العقول والمهارات، لكنه لا يزال عاجزاً عن تحويل هذه الكتلة البشرية إلى قوة إنتاج حقيقية. ولهذا يؤكد البنك أن مصر بحاجة إلى تسريع عملية خلق الوظائف، ليس فقط لاعتبارات اقتصادية، بل لاعتبارات اجتماعية واستراتيجية أيضاً.
اقتصاد يمكن أن يتضاعف إذا تحققت الشروط
ما يلفت الانتباه في التقرير هو حجم الفرص الاقتصادية الضائعة حالياً. فلو تمكنت مصر من الوصول إلى “التوظيف الكامل” للشباب، سيرتفع الناتج المحلي بنسبة تصل إلى 36%. وإذا تم سد فجوة التوظيف بين الجنسين، قد ترتفع النسبة إلى 68%. والجمع بين هذين العنصرين يفتح الباب أمام إمكانية نمو إجمالي الاقتصاد بما يصل إلى 67%. هذه الأرقام ليست مجرد أحلام، بل نتائج حسابات مبنية على تجارب دول نجحت في تحويل مواردها البشرية إلى قوة اقتصادية حقيقية.
الطريق إلى النمو.. مؤسسات قوية واقتصاد مستقر
النمو ليس مجرد أموال تُضخ، كما يقول التقرير، بل منظومة كاملة تحتاج إلى مؤسسات قوية، وقوانين واضحة، واستقرار اقتصادي يجذب المستثمرين بدلاً من أن يربكهم. يتضمن ذلك سياسات ضريبية مستقرة، نظاماً قضائياً فعالاً، ولوائح تنظيمية تسهّل العمل بدلاً من أن تعرقله. والأهم من كل ذلك بيئة عادلة تسمح للنساء والشباب بالمنافسة والعمل والمبادرة.
القطاع الخاص.. اللاعب الذي لا يمكن تجاهله
يشدد البنك الدولي في تقريره على أن القطاع الخاص ليس مجرد عنصر اقتصادي مكمل، بل هو القلب الحقيقي لأي عملية نهضة ترغب مصر في تحقيقها. فمعظم ما ينتجه الاقتصاد اليوم يأتي من هذا القطاع الذي يساهم بـ75% من الناتج المحلي، ويستوعب 80% من القوى العاملة. ورغم هذا الدور الكبير، لا يزال القطاع الخاص يتحرك في مساحة مليئة بالعقبات، أبرزها صعوبة الحصول على التمويل. إذ لا تتجاوز نسبة القروض الموجهة له 30% من الناتج المحلي، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بدول مشابهة ترتفع لديها هذه النسبة إلى مستويات أعلى بكثير.
ويضيف التقرير أن أحد التحديات التي تعرقل تسارع النمو هو اتساع دور شركات الدولة، حيث تعمل أكثر من 561 جهة حكومية في 18 قطاعاً مختلفاً. هذا الامتداد الكبير يقلص من مساحة المنافسة أمام الشركات الخاصة، ويحد من قدرتها على الابتكار والتوسع. كما يشير التقرير إلى أن القيود اللوجستية والحواجز التجارية تزيد من تكلفة التصدير وتبطئ حركة التجارة، ما يجعل دخول السوق العالمية أكثر صعوبة.
إصلاحات ضرورية.. من الإجراءات إلى التنفيذ الفعلي
يعرض البنك وصفة إصلاحية تقوم على فتح الطرق أمام الاستثمار، وتسهيل الوصول إلى الأراضي الصناعية، وتحديث التدريب المهني حتى يتوافق مع احتياجات الواقع، وليس مع مناهج قديمة لا تعكس متطلبات السوق الحديثة. ويشير إلى مبادرات تم تنفيذها بالفعل مثل “مصر الرقمية” وتطوير الجمارك وخفض مدد الإفراج عن البضائع من 16 يوماً إلى 8 أيام، وهي خطوات مهمة لكنها تحتاج استكمالاً وتوسيعاً حتى يشعر بها المستثمر والمواطن.
أمثلة حية.. الإصلاح عندما يترجم لفرص
ليس كل شيء نظرياً فهناك أمثلة بدأت تظهر نتائج ملموسة للإصلاحات حين وُجدت برامج مدروسة وممولة جيداً. مشروع تحفيز ريادة الأعمال خلق مئات الآلاف من فرص العمل ودعم عشرات الآلاف من المستفيدين بينهم نسبة معتبرة من النساء والشباب، مما يؤكد أن القِطع الصغيرة من الدعم المالي والإرشاد المهني يمكنها أن تحدث فرقاً كبيراً في حياة الناس. وفي المحافظات الجنوبية تعكس تجربة برنامج التنمية المحلية كيف أن دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة يمكن أن يفتح أسواقاً جديدة ويعيد تنشيط الاقتصادات المحلية، فقد استفادت عشرات الآلاف من الشركات وبرزت فرص عمل جديدة في مجتمعات كانت تعاني من بطء النمو.
أما في قطاع التجزئة فتوفر استثمارات مؤسسات التمويل الدولية مثالاً عملياً على أثر رأس المال في توسيع الأعمال وخلق وظائف بأعداد كبيرة، فخطة لتأسيس مئات المتاجر الجديدة ستترجم إلى آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يبرهن أن السياسات التي تتيح التمويل وتسهّل التوسع قادرة على تحويل حديث الإصلاح إلى واقع محسوس في الشارع.
مستقبل سوق العمل.. قيمة أعلى وفرص أوسع
يوضح تقرير البنك الدولي أن المستقبل الاقتصادي لا يمكن بناؤه على قطاعات منخفضة القيمة مثل البناء والتجزئة فقط. فهذه القطاعات مهمة، لكنها لا تستطيع أن تعطي الاقتصاد دفعة قوية. في المقابل، تمتلك الصناعات التحويلية غير النفطية فرصاً واسعة للنمو، مثل صناعة الأدوية والغذاء والسيارات والإلكترونيات. كما أن التحول نحو الطاقة المتجددة، والاعتماد المتزايد على التكنولوجيا والخدمات الرقمية، يفتح مجالات ضخمة أمام الشباب.
كذلك سيكون لقطاع الصحة والسياحة دور أكبر في خلق وظائف ذات قيمة أعلى بالتوازي مع الطلب المتزايد في الداخل والفرص القائمة على الموارد الطبيعية والتراث الثقافي.
صوت البنك الدولي.. التحدي الأكبر والفرصة الأكبر
قال ستيفان غيمبير، مدير قسم مصر واليمن وجيبوتي بالبنك الدولي، إن التحدي الأكبر الذي تواجهه مصر اليوم هو خلق وظائف أكثر وأفضل. لكنه يرى في الوقت نفسه أن هذا التحدي هو الفرصة الأكبر للبلاد. ويؤكد أن مصر بدأت بالفعل خطوات مهمة، لكن المطلوب هو استمرار الالتزام على أعلى مستوى حتى يتم تحويل الإمكانات النظرية إلى واقع ملموس يستفيد منه الناس.
التقرير لا يقدم وعوداً وردية ولا يرسم سيناريوهات حالمة، بل يطرح رؤية تقوم على معادلة بسيطة.. مصر تمتلك كل المقومات التي تحتاجها للانطلاق، لكن تحويل هذه المقومات إلى نمو حقيقي يتطلب إرادة سياسية وعملاً مؤسسياً جاداً. فالشباب يشكلون أغلبية المجتمع، والنساء يمثلن طاقة إنتاجية هائلة لم تُستثمر بعد بالشكل الكافي، والبلاد تمتلك موقعاً جغرافياً استثنائياً يعزز مكانتها في سلاسل التوريد العالمية.
بهذه الرؤية، يضع البنك الدولي أمام مصر فرصة كبيرة، وربما تاريخية، لتغيير مسار اقتصادها خلال الـ25 عاماً المقبلة. كل ما تحتاج إليه البلاد هو الاستمرار في الطريق الذي بدأته، بخطوات أكثر ثباتاً وجرأة، حتى يصبح المستقبل الذي يتحدث عنه التقرير واقعاً يعيشه الناس، وليس مجرد أرقام على صفحات التقارير الدولية.