"شحرور".. كلمة يعشقها الأسرى الفلسطينيون بسجون الاحتلال الإسرائيلي

ينتظرها آلاف الأسرى الفلسطينيون القابعون في غياهب السجون على أحر من الجمر.. يعشقونها.. يترقبون اليوم الذي تشنف فيه آذانهم بسماعها بعد أن قضوا زهرة شبابهم خلف القضبان السميكة والأسلاك الشائكة وعانوا مرارة الأسر وعذاباته، إنها "شحرور" هذه الكلمة العبرية السحرية التي تعني "الإفراج" من قيد السجان الإسرائيلي.
وقال وزير الأسرى والمحررين بالحكومة الفلسطينية المقالة في قطاع غزة الدكتور عطا الله أبو السبح - لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في غزة - "(شحرور) كلمة غالية لدى الأسير الفلسطيني ينتظرونها دائما وأبدا.. والاحتلال الإسرائيلي يتلاعب بأعصابهم فقد يؤخر قائمة "الشحارير" المفرج عنهم إلى الثواني الأخيرة".
وأضاف "أن الأسير المحكوم بمدة محددة سلفا ويعرف أنه سيخرج فى تاريخ معين يتمنى في كل ثانية أن يصل إلى لحظة "الشحرور" ويبدأ في عد الدقائق وإحصاء الثواني المتبقية له كي يتحرر من عذاب وتعنت وصلف السجان المحتل، مؤكدا أن الأسير الإدارى يتعذب عشرات المرات وتزداد جرعة القلق لديه عندما يقترب موعد (شحروره)".
لافتا أبو السبح إلى أن الأسير الإدارى يسأل نفسه في كل لحظة هل يا سأخرج للنور وأعود إلى أرض الوطن أم سيمدد الاحتلال اعتقالي؟، موضحا أنه سبق أن أدرك جيب عسكري أحد المفرج عنهم أثناء استقلاله الباص بعد خروجه من السجن، وقال له الضابط الإسرائيلي في لهجة ساخرة "إنزل فقد جاءتك سنة جديدة "متاناه" أي هدية بالعبرية".
ومنذ احتلال فلسطين، اعتقلت إسرائيل آلاف الفلسطينيين ضمن الاعتقال الإداري لفترات تراوحت بين بضعة أشهر إلى بضع سنين، ويقبع في سجونها حاليا نحو 200 معتقل إداري بينهم 11 نائبا في المجلس التشريعي، ويتم الاعتقال الإداري استنادا إلى أمر إداري بجرة قلم فقط بدون حسم قضائي أو لائحة اتهام أو محاكمة، وكذلك بدون إبداء الأسباب أو إعلام الأسير بسبب اعتقاله أو المدة التي سيقضيها في السجن.
وأكد أبو السبح، الذي تعرض للاعتقال خمس مرات ما بين عامي 1987 و1993، أن هناك "شحرور" آخر يدمى القلوب، وهو الذي يفرج عنه ميتا من سجون الاحتلال، قائلا "لقد شهدت شحرورا لأسير من منطقة أريحا بالضفة الغربية اشتكى من ألم في أذنه ومات خلال 72 ساعة وكان معتقلا مع ثلاثة من أشقائه حرمهم الاحتلال الإسرائيلي من مرافقة جثمانه فضج المعتقل كله بالاحتجاج ثم البكاء لأن الجسد "شحرر" ومنع الأخوة من أن يواروه الثرى".
وحول الطقوس المتبعة في يوم "الشحرور"، أوضح أبو السبح أن الأسير الذي يعرف موعد خروجه يستعد ليلتها ويقوم بفرز أغراضه ويتبرع بملابسه وأية ممتلكات أخرى كالكتب والأقلام والدفاتر التي يأتى بها الصليب الأحمر لزملائه، ثم ينتظر بعد ذلك على أحر من الجمر مرور السجان لينادى في كل قسم على قائمة أسماء الشحارير (المفرج عنهم).
وأشار إلى أنه يتم جمع المفرج عنهم فى مكان واحد ويفتشون تفتيشا إلكترونيا دقيقا، حيث يصل الأمر إلى التفتيش العارى خشية أن يصطحب الأسير معه بعض الأسرار أو التعليمات من قيادات السجن إلى الخارج، وبعد ذلك يوضع في الحافلة وغالبا ما يكون مقيد الأيدى ومعصوب الأعين ويظل كذلك حتى وصول الحافلة إلى المعابر الحدودية سواء مع قطاع غزة أو الضفة الغربية.
ولفت إلى أنه بالنسبة لقطاع غزة فإن قوات الاحتلال تترك الأسير عند معبر ناحال عوز شرق مدينة غزة (قبل إغلاقه) بعد أن تعطيه أوراقه الرسمية كبطاقة الهوية وغيرها ليدخل إلى الفضاء الفلسطيني حاملا ما تبقي معه من متاع.. وهذه اللحظة تاريخية فى حياة كل أسير يرفع خلالها شارات النصر ويعانق تراب الوطن ويسجد شاكرا لله.
ويقبع نحو 5 ألاف معتقل فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي، 84% منهم من سكان الضفة الغربية، والنسبة الباقية موزعة ما بين القدس وغزة والمناطق المحتلة عام 1948، موزعين على 17 سجنا ومعتقلا ومركز توقيف وسط ظروف لاإنسانية ومخالفة للمعاهدات والمواثيق الدولية.
وتفيد تقديرات فلسطينية رسمية أن من بين هؤلاء الأسرى 476 أسيرا صدر بحقهم أحكام بالسجن المؤبد لمرة واحدة أو لمرات عديدة،بينهم 19 أسيرة و200 طفل، كما أن هناك المئات من الأسرى اعتقلوا وهم أطفال وتجاوزوا مرحلة الطفولة في السجون.
وقال عبد الناصر فروانة مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين بالحكومة الفلسطينية في رام الله ل/أ ش أ/ "ليس هناك أفضل ولا أروع ولا أجمل من كلمة "شحرور".. فهي من أحب الكلمات إلى الاسرى.. يعشقون سماعها لأنها ببساطة تعنى الانتقال من ظلمات ومرارة وآلام الأسر إلى نور الحرية".
وأضاف "ومع ذلك فهذه الحرية نسبية نظرا لوجود هذا الاحتلال الجاثم على أرضنا الفلسطينية، فالأسير لا يتمناها بأي ثمن على حساب قيمه ومبادئه ووطنه وتحرره، ويستعد بمجرد خروجه لجولة جديدة من مقاومة الاحتلال، موضحا أن الأيام الأخيرة في حياة الأسير تعد من أصعب الفترات في حياته وتمر بشكل بطىء جدا".
وتابع فروانة، وهو أسير محرر اعتقل 4 مرات في سجون إسرائيل وخبير مختص بشئون الأسرى يقيم في مدينة غزة، "السجان الإسرائيلي لا يمنح الأسير حتى الاستمتاع اللحظي بأنه "شحرور"، ويحاول دائما أن يسرق فرحته ويتلاعب بمشاعره عبر المماطلة وتعمد إبلاغه بموعد الإفراج في اللحظة الأخيرة".
يشار إلى أن المعتقلين المفرج عنهم يستقلون الباصات إلى معبر "إيرز" شمال قطاع غزة، إلا أن البعض قد يفاجأ بإبلاغه أن اسمه ظهر بالخطأ فيتم تحويله إلى "اعتقال إداري" أو "مقاتل غير شرعي" في محاولة للنيل من الأسير وعائلته والدائرة الاجتماعية المحيطة به.
وكشفت إحصائية صادرة عن وزارة الأسرى برام الله بمناسبة "يوم الأسير"، الذي يحييه الفلسطينيون في 17 أبريل من كل عام، أن الاحتلال الإسرائيلي اعتقل قرابة 800 ألف فلسطيني منذ عام 1967، بينهم نحو 15 ألف إمرأة وعشرات الآلاف من الأطفال.
وقال فروانة "قد تحدث إفراجات مفاجئة لعدد من الأسرى في إطار اتفاقيات التبادل أو التفاهمات السياسية، ولهذه الإفراجات متعة
ومذاق خاص حتى وإن كان للأسير فترة بسيطة جدا في السجن لأنه لا يتوقع مثل هذه الإفراجات".
وعما إذا كان الأسير يوقع على أية تعهدات عند الافراج، بين فروانة أن القاعدة العامة هي عدم إجباره على التوقيع، مشيرا إلى أنه أحيانا توجد مساومات وإبتزاز خصوصا للأسرى الإداريين، مثل عدم تمديد الاعتقال مقابل التوقيع، وأحيانا في عمليات الإفراج نتيجة لتفاهمات سياسية يجبر الأسير على التوقيع على وثيقة تعهد بألا يعود للعمل النضالي وممارسة ما يسميه الاحتلال بالعنف".
ومنذ عام 1967، استشهد 205 من الأسرى الفلسطينيين نتيجة للتعذيب والإهمال الطبي والقتل العمد، بالإضافة إلى وفاة مئات آخرين بعد خروجهم إلى الحرية متأثرين بأمراض ورثوها عن السجون الإسرائيلية.
ويعاني حوالي 1400 أسير من أمراض مختلفة بينهم 16 أسيرا يقيمون بشكل شبه دائم في مستشفى سجن الرملة، و25 أسيرا مصابون بالسرطان، بالإضافة لعشرات آخرين يعانون من إعاقات مختلفة سواء جسدية أو نفسية أو حسية في ظل سياسة الإهمال الطبي التى تنتهجها مصلحة السجون الإسرائيلية.
ويقول الأسير المحرر خالد عبد المجيد "الأسير المحكوم بمدة محددة يترقب كلمة "شحرور" بفارغ الصبر، وما أن يسمعها يكاد يطير فرحا كأنه ولد من جديد لأنه سيتذوق طعم الحرية بعد سنوات من عمره قضاها خلف القضبان.. وتظل هذه الفرحة منقوصة ويشعر الأسير بغصة وأسى وألم عندما ينظر في عيون باقي زملائه الذين يترقبون مثل هذه اللحظة، فضلا عن أنه على يقين أن فترة الحرية لن تطول وأنه حتما سيعود إلى المعتقل طالما بقي الاحتلال".
وأضاف عبد المجيد، الذي أفرج عنه خلال توقيع اتفاق أوسلو بين السلطة وإسرائيل في سبتمبر 1993، "هناك مفاجآت قد تحدث، فقد يفرج عن العشرات من الأسرى في إطار اتفاقيات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال أو صفقات لتبادل الأسرى، مشيرا إلى أنه شاع عند توقيع اتفاق أوسلو أن الاحتلال سيطلق سراح مئات الأسرى، وبعد التأكد من توقيع الصفقة فعلا انتاب كل "شحرور" نوعا من الخوف والقلق من التراجع عنها فى آخر لحظة".
وتابع "خلال استقلالنا للأتوبيسات بعد الإفراج عنا، هددونا بمجرد وصولنا إلى معبر "ناحال عوز" بالعودة إلى السجن بدعوى أنه لم يتم التوقيع على الاتفاق.. ولا أعرف هل كان هذا التهديد بالفعل صحيحا أم كان مجرد نوع من الحرب النفسية واللعب بالأعصاب والسادية حتى آخر لحظة؟".