في غزة، يُولد الصباح ككل يوم – لكنه هذه المرة متشحٌ بما تبقّى من حياة بين أطلال الإسمنت والبيوت المهدومة. بعد سكون المدافع، لا يعلو صوت فوق سؤال الإعمار: من يُعيد القلب للمدينة المنهكة؟ من يرسم معالم المستقبل بعد أن التهم الحريق تفاصيل الماضي؟ هنا فقط، تبدو القاهرة لا كجوار جغرافي وحسب، بل كضمير سياسي يحمل بوصلة المنطقة، وقلمًا يرسم خارطة الأمل وسط مشهد يضج بالوجع والأطماع الدولية .
غزة، التي خمد في شوارعها الرصاص، لم يصمت فيها الأمل. تقرير البنك الدولي والأمم المتحدة الأخير يشير إلى دمار يتجاوز 70 مليار دولار، وتضرر أكثر من 350 ألف وحدة سكنية، واقتصاد أُنهك بالكامل، ونظام صحي يئن تحت الركام. لكن وسط هذا الخراب، ظل هناك خط إغاثة نابض اسمه مصر: أكثر من 59 قافلة إمداد دخلت غزة خلال شهور، مئات الشاحنات عبر معبر رفح يوميًا، فرق هندسية وطبية تدخل بروح المهمة الوطنية، لا بشعار المساعدات الطارئة فحسب.
القاهرة تدرك أنها لم تعد قادرة على حصر دورها في وسيط تقليدي؛ فهي اليوم اللاعب الذي يدير خيوط المشهد، يفرض خطوطه الحمراء ويُحدد معايير الاستقرار. من اللحظة الأولى لإعلان التهدئة، تدفقت الوفود المصرية على غزة ورام الله، جولات لا تهدأ من المشاورات السياسية والفنية، وخلايا تنسيق مشتركة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. داخل الغرف المغلقة تُعرَض خرائط الإعمار، وتُناقش آليات التمويل، وتوضع اشتراطات كل طرف – لكن مصر تصر بوضوح: لا طريقة لعبور الركام إلا بضمان استعادة السيادة الفلسطينية وعدم تحويل الإعمار لملف ابتزاز سياسي أو تبادل نفوذ جديد .
بينما تحشد واشنطن تعهدات بمليارات الدولارات، وتُلوّح إسرائيل بشروطها الأمنية، وتناور تركيا وإيران والصين وكلٌ يحمل جعبته من المصالح والمشاريع… تبرز القاهرة بثبات: “أمن غزة أمنٌ لمصر، وبناء القطاع حماية لاستقرار المنطقة بأكملها”. صوت مصري هادئ – لكن لا يقبل العبث بالكرامة الوطنية، ولا يسمح بفراغ أمني أو تدخل خارجي يرهن الأرض والإنسان لمشاريع الآخرين .
ولم تبقَ القاهرة على أطراف المشهد، بل دخلته من باب الفعل لا الشعار. مشاهد الجرافات المصرية وهي تزيل الركام، والمهندسين وهم يخططون لإعادة بناء حي الرمال، ومراكز الإيواء والمدارس الميدانية التي أقامتها فرق الطوارئ المصرية، جميعها شهادة بأن الإعمار هنا سياسة بامتياز قبل أن يكون عملًا إنسانيًا. هنا جوهر التحرك المصري: ليس فقط رعاية التواصل الفلسطيني الفلسطيني، ولا مجرد ضمان المعابر، بل إعادة تشكيل معادلة إقليمية جديدة تضع غزة في مركز الحسابات لا هامشها.
هذه الرؤية المصرية تنعكس في صرامة الخطاب الرسمي: من المؤتمر الدولي في بروكسل، حيث ربط الرئيس السيسي أي خطة إعمار بضمانات سياسية حقيقية، إلى اللقاءات اليومية مع السلطة والفصائل الفلسطينية، حيث ترفض مصر خيار “الوصاية” أو أي صيغة تقتطع من السيادة الفلسطينية باسم الدعم المالي أو الأمني. وبين التشابك الإقليمي والدولي، تدفع مصر باتجاه لجنة دولية–عربية–فلسطينية تشرف على مشاريع الإعمار، وتوفّر آليات رقابة مستقلة تمنع تكرار مأساة الحصار أو استغلال الكارثة لإعادة تدوير النفوذ.
التحدي الحقيقي كما تقرأه القاهرة ليس في قيمة التمويل ولا سرعة إزالة الأنقاض، بل في قدرة العرب على بناء نموذج صلب لصناعة سلام عادل ومتوازن. من يراقب المشهد اليوم يدرك أن مصر، بخبرتها ووزنها، تتقدم الصفوف لأن لديها قناعة راسخة أن الإعمار في غزة معركة هوية بقدر ما هو تحدٍ عمراني–معركة انتزاع الحق الوطني من بين أنقاض الحرب ومن بين أنياب المشاريع الطامعة.
وفي لحظة تاريخية مفصلية، تثبت مصر – كما اعتادت طوال تاريخها الحديث – أنها لا تخرج من الميدان إلا بعد أن توقظ الأمل، وتُنبت من ركام الحرب بذرة سلام يصعب اقتلاعها.