الاقتصاد المصري يشهد انتعاشًا ملحوظًا.. وقناة السويس وصادرات الغاز تقلل من خسائر السياحة.. وقرض "النقد الدولي" قريبًا

ارتفع مؤشر البورصة المصرية هذا الاسبوع الى أعلى مستوى له منذ يوليو الماضي وكان ذلك أكثر من مجرد خبر سعيد لمستثمري الاوراق المالية اذ أنه مؤشر على أن اقتصاد البلاد بات مرشحًا للتعافي بعد عام كامل من الاضطرابات.
وتعطلت كثير من الاستثمارات تحت وطأة الاضطرابات التي تلت الاطاحة بالرئيس حسني مبارك في فبراير من العام الماضي. وأدى هذا الى تراكم الطلب بشكل هائل على الاسكان والسلع والخدمات لتلبية احتياجات نمو سكاني سريع.. طلب قد تتحرك الشركات الان للوفاء به ما يضع البلاد على مسار نمو اقتصادي أسرع في وقت لاحق من العام الجاري.
وقد تحصل مصر على بعض الدعم في جهودها الحثيثة لتمويل عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري اعتبارًا من مارس الجاري حيث من المتوقع أن توقع اتفاق قرض بقيمة 3.2 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي قد يفتح الطريق أمام مزيد من المساعدات الخارجية. ولم يعد الانخفاض الحاد المحتمل في قيمة الجنيه مؤكدًا.
وتمضي مصر قدمًا في عملية التحول الى الديمقراطية بما في ذلك الانتخابات البرلمانية التي جرت في يناير الماضي. صحيح أن العملية شابتها اضطرابات وتظاهرات اجتاحت الشوارع ولا تزال هناك عدة قضايا محورية يحيط بها جو من الضبابية مثل حجم الصلاحيات التي سيحتفظ بها الجيش. لكن المتوقع بنهاية يونيو القادم أن يتولى حكام مدنيون شؤون البلاد وسيكون عليهم اتخاذ قرارات صعبة على مستوى السياسات الاقتصادية.
ويقول جابرييل ستيرن الاقتصادي ببنك اكزوتيكس الاستثماري المتخصص في الاسواق الناشئة "كانت هناك كثير من التحذيرات خلال العام الماضي لكن الواضح أن الامر سينتهي الى حكومة تعكس ارادة الشعب".
ويضيف "هذه الحكومات ستجد سهولة أكبر في ادخال اصلاحات هيكلية كونها في التحليل النهائي في صالح الشعب. لكن الاحتمالات لا تزال قائمة لأن تضل الاصلاحات الطريق".
ولا يزال الاقتصاد المصري يئن تحت وطأة ضبابية سياسية واضطرابات عمالية تلت الاطاحة بمبارك. فقد ارتفع معدل البطالة الرسمي الى 12.4% في الربع الرابع من عام 2011 من أصل 8.9% قبل عام رغم أن اقتصاديين يرون في هذه النسبة تهوينا للعدد الحقيقي للعاطلين عن العمل. وتفاقمت معدلات الفقر الذي كان محفزًا رئيسيًا لانتفاضة العام الماضي.
غير أن بعض قطاعات الاقتصاد تستعيد عافيتها بشكل جيد. فقد عوضت ايرادات قناة السويس وصادرات النفط والغاز وتحويلات العاملين بالخارج القوية فاتورة تراجع دخل السياحة واستثمارات الشركات الاجنبية بشكل جزئي.
ويظل تراجع معدلات السياحة التي تعد مصدرًا هامًا للعملة الصعبة وللتوظيف غير مريح لكنه لم يعد خانقًا. وتراجع عدد الليالي السياحية بنسبة 18% في ديسمبر الماضي عنه قبل عام حسب الارقام الحكومية مقارنة بتراجعات شهرية تراوحت بين 30 و50% خلال فترة الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد مطلع العام الماضي.
وحققت شركات مصرية كبيرة أداء أقوى بكثير من توقعات المحللين. فأعلنت حديد عز أكبر مصنع للحديد في البلاد أن صافي أرباحها في الربع الثالث قفز الى 128 مليون جنيه (21 مليون دولار) من أصل 1.65 مليون جنيه قبل عام بفضل الطلب القوي على منتجاتها.
وتراجع صافي الارباح المجمعة للبنك التجاري الدولي أكبر بنك خاص في البلاد من حيث قيمة الاصول بنسبة 20% العام الماضي بعد تجنيب مخصصات مرتفعة تحسبًا لخسائر القروض. لكن هذا الانخفاض لا يعد كارثيًا في أجواء أزمة اقتصادية.
وهناك مؤشرات على أن رجال الاعمال يتوقعون انتعاش الاستثمار خلال العام الجاري. فتقول الشركة المصرية للاتصالات التي تتمتع باحتكار خطوط الهواتف الارضية انها تخطط لانفاق رأسمالي يتراوح بين مليار و1.2 مليار جنيه هذا العام ارتفاعا من مبلغ 689 مليون العام الماضي.
وقال طارق أبو علم الرئيس التنفيذي للشركة لرويترز انه رغم بقاء المناخ الاقتصادي الصعب فان عملاء الشركة من قطاع المؤسسات قرروا أنهم لا يستطيعون الانتظار أطول من ذلك حتى تتحسن حظوظ البلاد.
وتحسنت آفاق الشركات العقارية التي حفزت الاقتصاد خلال العقد الاخير منذ صدور حكم قضائي في نهايات العام الماضي أدى الى تسوية نزاع على أراضي للدولة اشترتها مجموعة طلعت مصطفى. وكان ذلك النزاع أثار شكوكًا حول مشروعات أخرى في أنحاء القطاع.
وقالت شركة سوديك الرائدة في مجال التطوير العقاري انها تخطط لزيادة استثماراتها هذا العام وتحاول وزارة الاسكان اطلاق نشاطها ببيع 8000 قطعة أرض على أطراف القاهرة للمصريين المقيمين بالخارج.
وأضاف أيمن سامي رئيس مكتب شركة جونز لانج لاسال في مصر "نحن نرى فعليا بعض الدلائل على تزايد النشاط" لكنه يستدرك قائلا "استمرار حالة اليقين شرط أساسي لكي يستعيد الاقتصاد عافيته تماما"
ويقدر صندوق النقد الدولي أن الناتج المحلي الاجمالي لمصر سيزيد بنسبة طفيفة في عام 2012 الى 1.8% بعدما ارتفع بنسبة 1.2% العام الماضي و5.1%عام 2010.
ويعتقد بعض الاقتصاديين أن التعافي الاقتصادي قد يمضي بوتيرة أسرع كثيرا. ويتوقع بنك "اتش.اس.بي.سي" أن الناتج المحلي الاجمالي قد ينمو بنسبة 2.7% في السنة المالية الحالية التي تنتهي في 30 يونيو وبنسبة 3.9% في السنة المقبلة.
لكن قوة التعافي الاقتصادي ستتوقف جزئيا على قدرة الحكومة على الفوز بثقة مجتمع الاعمال. وكان مسؤولون حكوميون سربوا الى الاعلام المحلي هذا الاسبوع أنباء عن وجود خطة لتحقيق الاستقرار في المالية العامة للبلاد تعد أول خطة تفصيلية خلال عام. وتهدف الخطة الى خفض عجز الموازنة الى 7.7 % من الناتج الاجمالي خلال السنة المالية 2013 - 2014 من أصل 8.4 % هذا العام وخفض الدين العام الى 77.5 % من الناتج المحلي الاجمالي من أصل 82.2%.
وتهدف الخطة الى تتعزيز كفاءة الانفاق على الدعم الحكومي واصلاح منظومة ضريبة الدخل والضرائب العقارية وطرح 50 ألف قطعة أرض للمصريين بالخارج لجمع 15 مليار دولار خلال السنوات الاربع المقبلة وربما فتح باب التقدم للحصول على رخصة تشغيل خدمات الجيل الرابع للهاتف المحمول.
لكن أثر هذه الخطة قد ينعدم ما لم تحصل على دعم فعال من القوى السياسية التي ستقبض على مقاليد الحكم بعد يونيو القادم وخصوصا الاخوان المسلمين الذين فازوا بما يقرب من نصف مقاعد البرلمان في الانتخابات العامة.
وسيكون تطبيق اجراءات تقشف لخفض عجز الموازنة أمرا شديد الصعوبة بعد ثورة استمدت وقودها من غضب الشعب من الاحوال الاقتصادية ولاسيما بالنسبة للاخوان المسلمين الذين يستمدون كثيرا من الدعم من شرائح الفقراء.
ويقول ستيرن "شاهدنا نضوجا سياسيا كبيرا فعلا من الاخوان لكنهم سيخضعون الى اختبار اقتصادي الآن. والقرارات الواجب عليهم اتخاذها ستتطلب درجة مساوية من النضوج ان لم تكن أكبر". إلا أن الاسواق المالية بدأت تثبت قدرة الحكومة على النهوض لمستوى التحديات. فقد ارتفع مؤشر البورصة بنسبة 44 % خلال العام الجاري رغم أنه لا يزال منخفضًا عن أعلى ارتفاع له خلال العام الماضي بنسبة 28%.
وأصبح معظم مشتري الاسهم مستثمرين مصريين وليسوا أجانب إذ يساور المستثمر الاجنبي مخاوف من تراجع محتمل لقيمة العملة. وهناك مؤشرات أيضا على أن المستثمر الاجنبي أصبح أكثر ارتياحا لمصر. فالعائد على السندات الدولارية المستحقة في عام 2020 والمسعرة عند 5.75% جاء عند أقل من 7% هذا الاسبوع بعد ارتفاعه الى 8.38 % في منتصف يناير الماضي. ويظل هذا العائد أعلى بكثير من مستويات حول 5.3% سجلها مطلع العام الماضي.
وفي سوق العملات الاجنبية ثمة اشارات على تراجع الضغوط النزولية على الجنيه. وتباطؤ مستوى تهافت الافراد والشركات المصرية على استبدال الجنيه بالدولار ما يعزى جزئيًا الى رفع البنك المركزي أسعار الفائدة مما جعل ودائع البنوك المحلية أكثر جاذبية.
وقال اندرو لونج رئيس عمليات "اتش.اس.بي.سي" في مصر "كان هناك الكثير من دولرة الودائع في النصف الاول من العام الماضي وهذا انخفض الان بشكل درامي".
وتراجع احتياطي النقد الاجنبي لدى البنك المركزي بواقع ملياري دولار تقريبا شهريا الى 16.4 مليار في يناير الماضي وهذا أقل من نصف مستوياته قبل عام. وخلال الاشهر المقبلة قد تتراجع الاحتياطيات الى حد يجعلها غير كافية لدعم قيمة الجنيه ما يضعه أمام احتمال انخفاض حاد.
لكن ان تباطأت هجرة رؤوس الاموال ونجحت مصر في الحصول على قرض صندوق النقد في مارس اذار واستدعت الحكومة استراتيجيات أخرى مثل اصدار سندات اسلامية (صكوك) بقيمة ملياري دولار والتي تتم دراستها حاليا قد تستطيع وقف تراجع الاحتياطيات في الاشهر المقبلة.
وفي حالة تعافي الاقتصاد واستقرار مقاليد البلاد في يد حكومة مدنية في النصف الثاني من العام فقد تبدأ رؤوس الاموال في التدفق الى الداخل من جديد. وسيكون أي تراجع لاحق في سعر الجنيه طفيفا ومحكوما بل سيكون مصممًا لتعزيز جاذبية الصادرات وليس نتاج أزمة.
وستساعد بيانات احتياطيات النقد الاجنبي عن شهر فبراير والمقرر اعلانها في مطلع مارس في ايضاح الصورة حول احتمال حدوث مثل هذا السيناريو المتفائل.
يقول سعيد الهرش الاقتصادي المتخصص في شؤون الشرق الاوسط بشركة كابيتال ايكونوميكس في لندن "عندما تبدأ الاحتياطيات في النفاد ويبدأ رفع سعر الفائدة تصل الى نقطة تصبح عندها الاسعار بلا فاعلية وتتسارع وتيرة بيع الجنيه."
ويضيف "لا زلنا متفائلين بشأن مصر بعد هذه الفترة. فقد تصبح أسرع اقتصادات الشرق الاوسط نموا في وقت قريب جدا.. لكن على المدى القصير يظل الوضع صعبًا جدًا".