في عالم تتغير فيه موازين القوة وتتعدد فيه التهديدات، لم تعد الجيوش وحدها قادرة على حماية الأوطان، بل أصبح لـ"القوة الناعمة" دور لا يقل أهمية. ومن بين أدوات هذه القوة، تأتي الدبلوماسية الثقافية كوسيلة فعالة لحماية الأمن القومي بطريقة ذكية وغير صدامية، والدبلوماسية الثقافية هي استخدام الثقافة والفنون والتعليم واللغة كوسائل لبناء علاقات إيجابية مع الشعوب الأخرى، وتعزيز الصورة الذهنية للدولة، وكسب تأييد دولي غير مباشر لسياساتها.
مصر قوة الثقافة المتجذرة:
مصر، صاحبة الحضارة الممتدة لآلاف السنين، تمتلك رصيدًا هائلًا من المقومات الثقافية: من اللغة العربية، والأدب والفنون، إلى الأزهر الشريف كمنارة للعلم والدين الوسطي، إضافة إلى السينما والموسيقى والمسرح التي طالما صدّرت صورة مصر المبدعة والمتنوعة.
لكن السؤال الآن: كيف نحول هذه المقومات من عناصر للهوية فقط إلى أدوات استراتيجية لحماية أمن مصر القومي؟
مواجهة الفكر المتطرف بالفكر المستنير:
التطرف والإرهاب لم يعد يُحارب بالسلاح فقط، بل يحتاج إلى معركة فكرية. هنا يأتي دور الأزهر الشريف ومؤسساته التعليمية والدعوية، في نشر الإسلام الوسطي المعتدل في الدول ذات القابلية للتطرف، سواء في إفريقيا أو آسيا أو حتى أوروبا.
من خلال إرسال المبعوثين، وتقديم المنح الدراسية، وتنظيم الفعاليات الحوارية، تستطيع مصر أن تكون قائدة في المعركة الفكرية ضد الإرهاب.
تعزيز العلاقات الإفريقية والعربية عبر الثقافة:
قارة إفريقيا، التي تعود فيها مصر إلى لعب دورها الريادي، يمكن أن تكون ميدانًا للدبلوماسية الثقافية النشطة. إقامة مراكز ثقافية مصرية في عواصم إفريقية، وتنظيم أسابيع فنية ومعارض تراثية، وإرسال وفود تعليمية وفنية، كلها أدوات تعزز من النفوذ المصري الناعم، وتبني جسورًا من الثقة والتعاون بعيدًا عن لغة المصالح الجافة، وأيضاَ نشر الفنون المصرية (مثل الموسيقى، السينما، الأدب، التراث الفرعوني) يعزز من جاذبية مصر في الخارج، فالصورة الإيجابية تمنع العداء أو التشويه، وتقلل من فرص التدخلات الخارجية أو الدعاية المعادية.
الدبلوماسية التعليمية: صناعة حلفاء المستقبل:
الآلاف من الطلاب الأفارقة والعرب الذين يدرسون في الجامعات المصرية اليوم هم قادة الغد في بلدانهم. هؤلاء يمكن أن يصبحوا سفراء لمصر في بلادهم إذا ما شعروا بالارتباط الثقافي والعاطفي بها.
وهنا يجب دعمهم بمنح وفرص وتواصل مستمر حتى بعد تخرجهم، لضمان استمرار هذا الارتباط بما يخدم الأمن القومي المصري على المدى الطويل.
ربط الجاليات المصرية بالخارج بوطنها الأم
الجاليات المصرية حول العالم تمثل امتدادًا مهمًا للدولة، لكن هذا الامتداد يحتاج إلى تفعيل وتغذية. تنظيم مهرجانات ثقافية في المهجر، وتقديم محتوى إعلامي موجه لهم، وربط الجيل الثاني والثالث من المهاجرين بالثقافة المصرية، يحولهم من مجرد مغتربين إلى خط دفاع شعبي خارجي عن مصر وقضاياها.
السينما والفنون: رسالة مصر إلى العالم:
الدراما والسينما المصرية لطالما كانت نافذة العرب والعالم على مصر. ولأن الفن قادر على تشكيل الوعي، فإن إنتاج أعمال فنية تُظهر الاعتدال، التنوع، والريادة الثقافية لمصر، سيكون له أثر يتجاوز كل بيانات السياسة الرسمية.
واخيراً فالدبلوماسية الثقافية ليست ترفًا، بل ضرورة استراتيجية، ولا تقل أهمية عن القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل إنها أكثر دوامًا وعمقًا في التأثير. فمصر تملك تراثًا حضاريًا ودينيًا وتعليميًا يجعلها في موقع ممتاز لتوظيف هذه القوة الناعمة بذكاء ومرونة، دون الحاجة إلى صراع أو مواجهة. لتعزيز أمنها القومي، وخاصة في ظل تحديات إقليمية معقدة. إننا بحاجة إلى خطة شاملة، تقودها وزارات الثقافة، والتعليم، والأوقاف، والخارجية، والإعلام، تستثمر في الإنسان قبل أي شيء، وتفتح نوافذ التأثير المصري في العالم من جديد. لأن الثقافة حين تُدار بوعي، تصبح أقوى من السلاح.
د. منال إمام تكتب: الدبلوماسية الثقافية في مصر.. درع ناعم لحماية الأمن القومي
