الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تصنيع الغاز هو الحل حتى لو "إسرائيلي"


انتابتني صدمة شديدة وأنا أتابع من" يلطم الخدود" و"يولول" و"يرقع بالصوت"، جراء مسيرة تحويل مصر إلى مركز عالمي لتجارة وتصنيع وتسييل الغاز الطبيعي، في تطوير إستراتيجي للاقتصاد المصري وذلك في أعقاب إعلان إحدى الشركات المصرية الخاصة عن اتفاقية لاستيراد غاز من إسرائيل في صورته الخام، تمهيدا لتصنيعه في المصانع المصرية.

وتهدف هذه الاتفاقية، التي لن تدفع فيها الحكومة المصرية جنيها واحدا، إلى تحويل الغاز الطبيعي الإسرائيلي في صورته الخام إلى غاز سائل في المصانع المصرية في خطوة بالغة الأهمية تضع مصر على الطريق الصحيح، طريق التصنيع فائق التطور، المصحوب بمكاسب مادية هائلة في إطار جهود مصر الرامية لتطوير الاقتصاد المصري وتحويله من اقتصاد خدمي ريعي، لاقتصاد صناعي تكنولوجي.

فاللمرة الأولى في تاريخ مصر، منذ أن كنا نأخذ على الاحتلال البريطاني حصوله على القطن المصري الخام طويل التيلة ونقله للمصانع البريطانية ليعود إلى مصر من جديد في هيئة ملابس مصنعة تعود بالمكاسب الهائلة على الإنجليز، يضع المصريون الإسرائيليين في نفس الموقف، باستيراد الغاز الخام من إسرائيل، بـ 15 مليار دولار، على فترة زمنية تصل لعشر سنوات لتعود هذه الاتفاقية على مصر بأضعاف أضعاف ما أنفق عليها.

ويؤكد الدكتور محمد سعد الدين، نائب رئيس غرفة البترول، أن قيام شركة "دولفينوس" المصرية التابعة للقطاع الخاص باستيراد الغاز من شركة "ديليك" الإسرائيلية سيحقق لمصر فوائد مادية تقدر بنحو 100 مليار دولار من خلال إعادة تصنيع الغاز الإسرائيلي وتصديره على شكل غاز مسال عالي التكلفة، كما أن مصر بما تمتلك من بنية تحتية يمكنها استغلال الغاز الإسرائيلي في صناعة البتروكيماويات ذات العائد المادي الهائل.

وسأترك هنا طلعت حرب باشا، ثم جمال عبد الناصر، ليردا على هؤلاء الندابين والمولولين على تحويل مصر لمركز دولي لتجارة وتصنيع وتسييل الغاز، فعندما أسس طلعب حرب باشا بنك مصر، في 1920، هاله أن تتعرض بلاده لاستنزاف ثرواتها من الذهب الأبيض، أي القطن في ذلك الوقت، الذي كان يذهب لإنجلترا في شكله الخام، ثم يعود لمصر في صورة ملابس مصنعة يكسب المحتل الإنجليزي من وراء تصنيعه مكاسب هائلة وتعود الفتات للمصريين، فبادر طلعب حرب بإنشاء شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، كإحدى شركات بنك مصر في سنة 1927، برأس ماله قدره 300 ألف جنيه ليرتدي المصريون للمرة الأولى ملابسهم من صناعة إيديهم، ثم جاء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليطور الشركة برفع رأسمالها في سنة 1958 إلى 4 ملايين جنيه.

والغريب أن من يولولون ويلطمون الخدود اعتراضا على هذه الاتفاقية، لأنها مع شركة يهودية يستخدمون في صراخهم سلاحا رئيسيا لتوصيل صراخهم وهو موقع "فيس بوك" المملوك للملياردير "اليهودي" الشاب مارك روزكربيرج، ولا يخفى على أحد، أن اليهود حتى لو لم يكونوا من معتنقي الفكر الصهيوني، مثل مارك روزكربيرج، فإنهم يؤيدون إسرائيل ماديا ومعنويا، كما أن من يصرخون على قيامنا بتصنيع الغاز الإسرائيلي في مصانعنا، يستخدمون شبكات شركات المحمول وينفقون المليارات للحصول على تكنولوجيا شركة مايكروسوفت ويشربون الكوكاكولا والبيبسي كولا ويأكلون الماكدونالدز وكل هذه الشركات العالمية إما هي شركات يهودية إما يغلب عليها رأس المال اليهودي والتكنولوجيا اليهودية، فهل عندما نتحرك للمرة الأولى في الطريق الصحيح ونحقق مكاسب مادية من اليهود تتحول الأمور لمندبة وولولة ولطم خدود في حملة انطلقت شرارتها من القنوات الفضائية التي تبث من تركيا؟.

ولكن لماذا اانطلقت الحملة من تركيا؟ الإجابة واضحة، لأن تركيا كانت ترغب في أن تطيح بمصر وتتحول هي لمركز دولي لتسييل وتجارة الغاز وصناعة البتروكيماويات، عن طريق رجال الأعمال اليهود الأتراك، الذين يمثلون جانبا مهما من الطائفة اليهودية التركية، البالغ عددها 40 ألف يهودي، ولا بد من الاعتراف بأن تركيا تمتلك كثير من المقومات لكي تحقق ذلك، خاصة من خلال رجال الأعمال اليهود المليارديرات، الذين يسيطرون عن نحو 50 في المائة من الاقتصاد التركي، من خلال جمعية رجال الأعمال والمصنعين الأتراك "توسياد". وترجع أهمية رجال الأعمال اليهود في تركيا، إلى أنهم يساهمون بنسبة 60 في المائة من الأسواق التي تم فتحها أمام الصناعات والصادرات التركية للخارج خاصة للأسواق الأوروبية، نظرا لقوة علاقة اليهود الأتراك بالأوروبيين، ونفوذهم الكبير على صانعي القرار في أوروبا من خلال اللوبي اليهودي القوي.

وتؤكد مصادر مطلعة في أنقرة، أن الحكومة التركية بذلت جهودا جبارة، لإقناع رجال الأعمال اليهود بالتحرك باستخدام نفوذهم، من أجل منح تركيا ميزة التحول لمركز دولي لتجارة الغاز، لكن اليهود الأتراك ردوا على الحكومة التركية بعد دراسات مستفيضة استندت على قانون المكسب والخسارة، أن تركيا غير مؤهلة لذلك، أولا: لأنها دولة غير منتجة للغاز، وثانيا: لسوء علاقتها باليونان وقبرص اللذان نجحا في ترسيم حدودهما البحرية مع مصر، لا سيما وأن قبرص اختارت مصر لتسييل غازها الطبيعي فيها، كما أن الغاز الطبيعي لا يصدر إلا بوسيلتين، الأولى: عن طريق التسييل حتى يمكن نقله في سفن وموقع مصر الإستراتيجي يعطيها ميزة فائقة، والثانية: في شكله الطبيعي عن طريق خطوط الأنابيب، وبما أن من الصعب على إسرائيل أن ترتبط بتركيا بأنبوب لنقل الغاز تحت البحر، يسير في مياه دولية غير آمنة، نظرا لتوتر علاقتها مع جارتيها اليونان وقبرص، وتورطها في حرب مع الأكراد، فضلا عن التكلفة الباهظة لإقامة هذا الخط، فإن مصر، وفقا للحسابات الاقتصادية، تعد أفضل من تركيا لوجود خط أنابيب قائم بالفعل يربط مصر بإسرائيل، وهو خط أنابيب شرق المتوسط الذي يمر بالمياه الإقليمية المصرية والإسرائيلية.

وينبغي الإشارة هنا إلى وجود عوامل أخرى أفشلت جهود رجال الأعمال اليهود في تركيا لتلبية مطلب حكومتهم بتحويل تركيا لمركز دولي لتجارة الغاز بدلا من مصر، على رأسها أن الأوروبيين يريدون وجود مصدر بديل "سريع" للغاز الروسي وليس لديهم رفاهية الانتظار لسنوات لإقامة خط تحت مياه البحر، حتى يتخلصوا من التهديد الروسى المستمر، الذي يتوعدهم بقطع الغاز عن بلدانهم بسبب موقف أوروبا المناهض لروسيا من الأزمة الأوكرانية، وتؤكد الأرقام التي لا تكذب حقيقة ذلك، فقد فشلت أوروبا في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، حيث أعلنت مؤخرا شركة "غازبروم" عملاق شركات الغاز الروسية أن إمداداتها من الغاز لدول أوروبا وتركيا سجلت مستوى قياسيا عام 2017 بلغ 194 مليار متر مكعب بزيادة قدرها 8 في المائة بالقياس بصادرات غازبروم لأوروبا وتركيا في العام 2016، وتشير المعلومات الأولية أن عام 2018 سيشهد زيادة مماثلة في معدلات تصدير الغاز الروسي لأوروبا وتركيا.

كما أن موقع مصر الإستراتيجي، بما تمتلكه من بنية تحتية، خاصة بعد إزدواج قناة السويس وربطها بمجموعة من الموانئ المتطورة على البحر الأبيض المتوسط يسهل كثيرا من تصدير الغاز في صورته السائلة لأوروبا على متن سفن، سواء كان هذا الغاز هو قبرصي، أو إسرائيلي، أو مصري في مرحلة لاحقة لا سيما وأن مصر مرشحة بقوة لتكون عملاق في مجال إنتاج الغاز ليس فقط بعد الاكتشافات الضخمة في البحر المتوسط وعلى رأسها حقل "ظهر" ولكن أيضا لاقتراب مصر من استخراج ثروات البحر الأحمر الهائلة من الغاز والبترول بعد ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية.

وتمتلك مصر مصنعين عملاقين لإسالة الغاز الطبيعي الأول في إدكو ويضم وحدتين لإسالة الغاز الطبيعي والآخر في دمياط ويضم وحدة إسالة واحدة وهما متوقفان حاليا عن العمل نظرا لذهاب الغاز المصري لتلبية احتياجات السوق المحلي المتزايدة من الاستهلاك المنزلي والصناعي.

ونقول للذين يبررون رفضهم لاتفاقية القطاع الخاص المصري مع شركة إسرائيلية في قطاع الغاز بإهانة شهداء مصر في الحروب مع إسرائيل، إن الدماء الزكية لشهداء مصر الأبرار لم تذهب سدا، لقد حررت هذه الدماء الطاهرة كامل الأراضي المصرية من المحتل الصهيوني بفضل انتصار حرب 1973 وهو الانتصار الذي يمهد الأرض الآن للمصريين للانتصار في الحرب الحديثة وهي حرب الاقتصاد. فالحروب الحديثة لم تعد حروبا عسكرية بقدر ما هي حروب اقتصادية. فأمريكا الدولة "الرأسمالية" "المسيحية "هي العدو الأكبر لروسيا "الرأسمالية" "المسيحية" لكن الحرب الدائرة بينهم في سوريا، على سبيل المثال، ليست حربا عسكرية لكنها حرب على تحقيق المكاسب الاقتصادية المادية.

أما من يبررون رفضهم للاتفاقية بوصفها تطبيع مع الكيان الصهيوني، وضربة للقضية الفلسطينية، فالرد يأتي على لسان الفلسطينيين أنفسهم فلو سألت الفلسطينيين لماذا لا تصدرون عملة وطنية فلسطينية وهي من أهم ركائز الدولة الوطنية وتستغنوا عن العملة الإسرائيلية "الشيكل"، سيكون ردهم، إن الشيكل الإسرائيلي قوى ومستقر ويصب في مصلحة المواطن الفلسطيني، كما أن بعض الفلسطينيين، رغم قلتهم ، يتوعدون مصر، رغم كل ما قدمته مصر من شهداء للقضية الفلسطينية، بأن أول ما سيطالبون به حكومتهم في حال التوصل لاتفاق سلام مع إسرائيل سيكون إقامة قناتين بديلتين لقناة السويس بالتعاون مع إسرائيل. الأولى: تربط بين البحر الميت والبحر الأبيض، والثانية: في شكل خط سكة حديد بري. وعندما تبدي دهشتك من هذا الموقف المعادي لمصر سيقولون لك لماذا كل هذا القدر من الدهشة "فالمصالح تتصالح".

وأخيرا نقول للذين يلطمون خدودهم بعد إتفاقية الغاز مع إسرائيل، أن من يريد أن يقهر عدوه في الحروب الحديثة، عليه أن يهزمه اقتصاديا، ولذلك فإن تصنيع الغاز هو الحل حتى لو كان قادما من إسرائيل.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط