الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مخلوقات بسيطة وراء صناعات ضخمة


عند الدول المتقدمة فرع مهم من العلوم يسمى "علم تقليد الكائنات الحية" (biomimetics) هو سبب نهضتها وإبداعها، فالذين يتفكرون مليا في بديع صنع الله ويتعلمون منه كانت لهم الغلبة في النهضة والصناعات رغم اختلاف عقائدهم وإلحاد الكثير منهم.
التأمل في مخلوقات الله واستنباط صناعات مبنية عليها هو المعنى الحقيقي لخلافة الله على الأرض وقد حث عليه الإسلام، والآية الكريمة "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" (البقرة 32) تشير صراحة إلى أن العلم كله من عند الله ولا يستطيع مكتشف أو مخترع أن يدعي أنه أتى به من عنده، لكن الفضل يعود له في أخذ الفكرة من الجرثومة أو الحشرة والتوجه بها إلى المصنع ليؤسس عليها صناعة..

والتعلم من المخلوقات معروف منذ آدم ومستمر إلى قيام الساعة، فأول عملية دفن للميت علمها الغراب لقابيل كي يدفن أخاه هابيل (والقصة في الآية 31 من سورة المائدة).. وفيما يلي عرض لبعض المخلوقات التي كان لها الفضل في التقدم الصناعي في الماضى، وتلك التي سيكون لها دور في المستقبل..

منذ القدم اكتشف الإنسان اللؤلؤ في المحار، واستخلص المسك من الغزال، وجنى العسل من النحل، واستفاد من بكتريا التخمر في صنع الخبز واللبن، ومن مراقبة البط وهو يعوم صنع المراكب والسفن، وحتى فنون التخفي تعلمتها الجيوش من الحرباء وهي تغير ألوانها لتحاكي الطبيعة من حولها.. وفي مراحل متقدمة، صنع الإنسان الطائرات وصمم لها أجنحة كأجنحة الطيور، ومن دراسة الحيتان الضخمة تحت الماء اهتدى إلى صناعة الغواصات، وكل أجهزة السونار الطبي هي تقليد للآمواج الصوتية للخفاش.

أشهر دوائين في العالم هما البنسيلين (المضاد الحيوي)، وهرمون الإنسيولين المعالج لداء السكري. الأول يصنعه فطر يسمى البنيسيليوم، والثاني تصنعه "بكتيريا محورة" وقد يؤخذ من بنكرياس البقر والخنزير. خمس شركات فقط تحتكر صناعة وبيع الإنسيولين للعالم كله حاليا وتربح 60 مليار دولار سنويا، والذي تنتجة لهم بكتيريا !.. والبلاد الإسلامية الفقيرة تشتريه بمئات الملايين من الدولارات سنويا ولا تستطيع صنعه، لأنها أهملت البحث العلمي لأكثر من ألف سنة عندما برز فقهاء متنطعون بالغوا في تحقير الدنيا وتمادوا في عبادات اللسان، وكفروا العلماء المبدعين الحقيقيين وأحرقوا كتبهم..

قطار اليابان فائق السرعة كان تصادمه مع الهواء في البداية مزعج جدا للركاب والسكان، وكان الحل الوحيد لجعله ينساب بلا ضوضاء هو جعل مقدمة العربة الأولى منه مدببة كمنقار الطير.

قرون الاستشعار على رؤوس الحشرات لها أشكال ووظائف متعددة كالشم واللمس والذوق والسمع والإحساس بالحرارة والتفاهم واستشعار الخطر، ومن يدقق عند التقاء نملتين يجدهما تتفاهمان بتلامس القرون أو بتحريكها باتجاه معين.. ومن اتصال هذه القرون بمخ الحشرة، تعلم الإنسان صناعة هوائيات الراديو والتلفزيون، والأقراص اللاقطة التي توضع فوق المنازل وأبنية الاتصالات.

وماذا تعلم الإنسان من أقدام البرص ؟.. البرص يتسلق الجدران ويمشي على السقوف وظهره إلى الأسفل ولا يسقط.. كيف ذلك ؟ الفكرة في أقدامه تقوم على الالتصاق بقوة التفريغ (الشفط)، وما أكثر استخداماتها في لصق أشياء على الجدران وداخل السيارات وفي تصميم أحذية رواد الفضاء ! وللبرص معجزة أخرى في عينيه فقوة إبصاره أقوى من الإنسان 350 مرة، لذا يحاول العلماء فهم أنسجة عينيه بهدف تقليدها في جيل جديد من الكاميرات.

مثل هذه الأبحاث مكلف لكن عائده مربح جدا، فقد تلقت جامعة متشيجين منحة بقيمة عشرة ملايين دولار لدراسة الخفاش وصنع طائرة تجسس بنفس حجمه وخفته وشكله، وبالفعل تم صنع هذه الطائرة ودخلت الخدمة لدى الجيش الأمريكي، وتقوم نفس الجامعة حاليا بأبحاث على مخ القطط للاستفادة منه في تطوير الكمبيوتر أكثر مما هو عليه الآن.

جميع كليات الفنون ومصممي الأزياء على وجه الأرض يتعلمون من ألوان الزهور والطيور وقوس قزح وجمال الغروب، وستبقى كلها مصادر إلهام للبشرية إلى يوم القيامة.. حقيقة لا يدركها إلا الراسخون في العلم..

وقبل الختام لا يفوتنا إلقاء نظرة على قدرة البرغوث وقفزته.. رجلاه الخلفيتان من القوة بحيث تمدانه عند الهرب بقفزة لا يلاحقها البصر.. ولو أراد الإنسان تقليد البرغوث في القفز فعليه أن يقفز بارتفاع ناطحة سحاب ويعود إلى الأرض سالما..! يدرس علماء الطب الرياضي حاليا أرجل هذا المخلوق الصغير عن كثب لأنهم رأوا في قوتها وقفزتها "حلم كل رياضي" !

إذن، العلم كله من عند الله وموجود في مخلوقاته كما ذكرنا، لكن المهم هو الوصول إليه والاستفادة منه، وهناك من يصل الليل بالنهار محاولا ترجمة المعجزات في خلق الله إلى صناعات رائجة، ليبيع سلعته بعـد ذلك بالسعر الذي يراه لمن فاته قطار التأمل والبحث العلمي، واكتفى بوضع خده على يده منتظرا نزول السلعة إلى الأسواق..
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط