الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حريق كنيسة نوتردام خسارة للتراث الإنساني


يظل إحياء القواسم الإنسانية المشتركة هو الأمل أن تنعم البشرية بالسلام والتعايش، فتلك القواسم هي التي تعلن بجلاء أننا جميعا من أصل واحد، وأننا مهما بعدت المسافات، ومهما تباينت المشارب، ومهما اختلفت العقائد قد خرجنا من صلب واحد.

إن هذه القواسم الإنسانية المشتركة هي التي تجعل إنسانا يتألم لمصير آخر، وهي التي تدفع الإنسان لمساعدة أخيه الإنسان الذي يكون في حاجة لمساعدة مهما كانت هناك من اختلافات ومهما فصلت بينهما المساحات.

تظل النوائب والمصائب والكوارث: الطبيعية منها وغير الطبيعية هي أكثر الدوافع لتلاحم بني الإنسان حول العالم، ذلك التلاحم الذي يكون نتيجة طبيعية لإحياء القيم الإنسانية، تلك القيم التي يتخلى عنها فريق وتفارقها جماعة تجعل العداء يحل محل الإخوة، وتجعل الكره والبغض يحل محل الحب، وتصطنع لذلك الأسباب، فتجعل من الاختلاف في العقيدة أو اللون أو العرق سببا للشماتة، ودافعا للعداء. 

إن هذا الفريق الأخير ليس محصورا ولا مقصورا على جنس دون جنس، ولا على لون دون لون، ولا على عرق دون عرق، ولا على عقيدة دون أخرى، ولا طائفة دون سواها، فهو ينسحب على بعض من كل هؤلاء، هذا البعض مهما علا صوته، ومهما زاد ضجيجه يظل – في تصوري- أقلية بين بني الإنسان، لأنه يسير على عكس الطبيعة البشرية، التي يسير وفقها – بطبيعة الحال – الأغلبية، في الإخاء والمحبة. 

إن هذا البعض يعادي الإنسانية جميعها، ولا يعاضد ولا يساند ولا يساعد ولا ينتمي إلا إلى جماعته أو عرقه أو لونه أو عقيدته، إنه كما الثور المغطى عينيه فيسير في الطريق التي رُسِمت له من المخططين لمساره، لا يملك من أمره شيئا، ولا يستطيع أن يرى طريقا آخر.

وهذا البعض يظهر في الملمات العالمية الكبرى وكأنه من عالم آخر، ولا ينتمي لهذا الكوكب، وليس من بني البشر، بل يبدون وكأنهم من مخلوقات معادية للإنسانية تصدر لها الشر وتتمنى لها المصائب.

هذا البعض ظهر في أبشع صورة له ليلة أمس حينما أصيبت الحضارة الإنسانية بمصيبة كبيرة، والتراث الإنساني بخسارة فادحة؛ حينما التهمت النيران كاتدرائية نوتردام التاريخية وسط باريس، فأظهر هذا البعض شماتة تعكس خللا ومرضا في النفوس.

ففي اللحظة التي كان يقف فيها العالم على أطراف أصابعه متابعا التهام النيران لهذا المعلم التاريخي، ولهذا الصرح الحضاري، ولهذه القيمة الدينية، وفي اللحظة التي كان قادة العالم يكتمون الأنفاس انتظارا لما تسفر عنه محاولات فرق الإطفاء الباريسية التي استنفرت نحو 400 عنصر إطفاء واستخدام 18 سيارة، في محاولة لإنقاذ هذا المعلم الحضاري والفني والإنساني والديني، كان هذا البعض يبدي شماتة متذرعا بحجج يسوقها من التاريخ، ويعززها بحوادث مشابهة في أماكن أخرى من العالم، بعضها وقع لجنسه أو وطنه أو عقيدته، مستدلا بها على أن العالم – هنا المقثود العالم الغربي- لم يحرك ساكنا، وربما اتفقنا معه في بعض منها، ولكننا لا يمكن أن نجعل من هذا الاتفاق سببا لاتخاذ مثل هذا الموقف الذي يتنافى مع القيم الإنسانية المشتركة التي نؤمن بها، وندعو لها.

إن الحريق الذي التهم كاتدرائية نوتردام (بالفرنسية: Notre Dame de Paris)، والتي تعرف بالعربية باسم كاتدرائية سيدتنا (العذراء) والتي تقع في الجانب الشرقي من جزيرة المدينة على نهر السين أي في قلب باريس التاريخي يمثل خسارة فادحة على عدة مستويات فعلى المستوى الفني يمثل المبنى تحفة الفن والعمارة القوطية الذي ساد القرن الثاني عشر حتى بداية القرن السادس عشر. وعلى المستوى التاريخي؛ فالكنيسة تعد من المعالم التاريخية في فرنسا ومثالا على الأسلوب القوطي الذي عرف باسم (ايل دوزانس) ويعود تاريخ إنشاء المبنى إلى العصور الوسطى. وعلى المستوى الأدبي كذلك حيث جاء ذكرها كمكان رئيسي للأحداث في رواية (أحدب نوتردام) للكاتب فيكتور هوجو. أما مستوى الهندسة المعمارية تعد كنيسة نوتردام في باريس هي من المباني الأولى في العالم التي استخدمَت الدواعم الطائرة. المبنى لم يصمم بالأصل ليضم الدواعم الطائرة الموجودة حول الممر وصحن الكنيسة ولكن تمت إضافتها بعد أن بدأ البناء، بدأت الكسور تحدث للجدران الرقيقة الموجودة في أعلاها مما دفعا للخارج، كرد عليه قام المهندسون المعماريون ببناء الدعائم في الكاتدرائية حول الجدران الخارجية، واستمر النمط كإضافات لاحقة. ومساحة السطح الكلية m² 5,500 (م² 4,800 مساحة السطح الداخلي )، وهو ما يؤكد عبقرية الهندسة المعمارية. 

وعلى المستوى الديني تقوم كاتدرائية نوتردام في مكان بناء أول كنيسة مسيحية في باريس، وهي "بازيليك القديس استيفان" والتي كانت بدورها مبنية على أنقاض معبد جوبيتير الغالو-روماني، النسخة الأولى من نوتردام كنت كنيسة بديعة بناها الملك شيلدبرت الأول ملك الفرنجة وذلك عام 528م، وأصبحت كاتدرائية مدينة باريس في القرن العاشر بشكلها القوطي، قبة الكنيسة ترتفع إلى 33 مترًا.

وغير ذلك الكثير مما يعكس حجم الخسارة على كافة الأصعدة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط