على مدى عقدين كاملين، جرى الترويج لفكرة تبدو في ظاهرها واقعية، لكنها في جوهرها مضلِّلة: أن الناس لم تعد تقرأ، وأن الثقافة فقدت أهميتها أمام ضغط لقمة العيش. وهذه في رأيي قولة حق أُريد بها باطل.
نعم، الحياة قاسية، والأحداث متسارعة، والهمّ المعيشي يتصدر اهتمامات الملايين، لكن هذا لا يعني ولم يكن أبدا يعني، أن الثقافة ترف زائد يمكن الاستغناء عنه، أو عبئًا على كاهل المجتمعات.
وإذا ألقينا نظرة مقارنة بين واقع الثقافة في مصر والعالم العربي ونظيرتها في الغرب، سنكتشف جوهر الأزمة. ففي الغرب، تُعامل الثقافة باعتبارها استثمارًا طويل الأجل، تدخل في صلب التخطيط الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، وتُدار بمنطق الصناعة لا الهواية. والكاتب هناك مشروع، والمسرح مؤسسة، والسينما صناعة، والبحث العلمي ركيزة سيادية. أما في عالمنا العربي، فلا تزال الثقافة في كثير من الأحيان أسيرة الموسمية والارتجال، تُستدعى عند الحاجة وتُهمَل عند أول أزمة، وكأنها زينة لا عصب حياة، رغم أن تاريخنا الثقافي كان ولا يزال أحد أعمدة النهضة الإنسانية، كما أن مصر حفرت في القرن العشرين مسارا ثقافيا وفكريا وأدبيا مهما يمكن البناء عليه.
يجب أن نقف لنفهم، أن العالم شهد في السنوات الأخيرة ثورة معرفية غير مسبوقة، وأصبح الرهان الحقيقي في مراكز البيانات، والذكاء الاصطناعي، والبحث العلمي، وتراكم المعرفة. المعركة اليوم ليست فقط من يملك السلاح أو المال، بل من يعرف أكثر، ويفهم أسرع، ويُنتج معرفة أعمق. والثقافة، بهذا المعنى، لا تقتصر على الأدب والشعر، بل تمتد إلى العلم، والدين، والطب، والتكنولوجيا، وكل ما يشكّل وعي الإنسان ويمنحه القدرة على الفعل والتأثير. إنها جزء أصيل من معركة الحياة الحديثة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى ثورة ثقافية حقيقية ومحددة الملامح أولها إعادة الاعتبار للكتاب، الذي لم يعد حبيس الورق، بل صار إلكترونيًا، ومسموعًا، ومرئيًا، قادرًا على الوصول إلى كل بيت وكل هاتف. وثانيها الاهتمام الجاد بالمسرح المدرسي والعام، بوصفه مدرسة للخيال والانضباط والجمال، مع البحث في عيون المسرح المصري والعالمي، وإعادة تقديمها بروح معاصرة، وصقل المواهب الشابة، وتغذية عقول النشء والشباب بما هو قيّم ومفيد.
كما أن زيادة برامج اكتشاف المواهب لم تعد خيارًا، بل ضرورة، ودعم الأدب والرواية وتوسيع منافذ بيعها، ومساندة دور النشر، وزيادة معارض الكتب في الأقاليم، لأن معرض القاهرة وحده، مهما بلغت أهميته، لا يكفي. الثقافة اليوم يا سادة، وبمعناها الواسع لم تعد ترفًا نخبويًا، بل ضرورة حياة، لأنها تصنع شخصية إيجابية قادرة على التفاعل مع معطيات العصر المتغيرة.
فالوظيفة في الزمن القادم -وربما بعد سنوات قليلة - لن تكون كما نعرفها اليوم. العالم يعاد تشكيله، ومن لا يمتلك معرفة حقيقية سيتراجع إلى الهامش، فالمعركة ضخمة بالفعل ووقودها المعلومات والثقافة ومراكز المعلومات.
ومصر، بما تملكه من كنز هائل من القوى الناعمة والمثقفة، قادرة على إعادة تصدير الثقافة إلى العالم العربي. نحن قادرون على العودة بقوة في الكتاب والرواية والأغنية والسينما والدراما، لتصبح الثقافة مصدر دخل وعملة صعبة.
إن التقليل من شأن الثقافة اليوم هو جهل وظلم، لأنها قلب عصر الذكاء الاصطناعي وروحه. المعرفة هي السلاح الأفتك في عالم الغد، وستظل كذلك لعقود قادمة، وربما لنصف قرن، ولا يليق بمصر بالخصوص والعالم العربي في العموم أن نتخلف عن هذه المعركة.